حسام ميرو
ثلاثة عقود مرت على انهيار النظام الدولي ثنائي القطبية، لكن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من انتصارها الاستراتيجي على الاتحاد السوفييتي السابق، والذي توّج بانفراط عقده، وزواله عن الخارطة، فإنها عانت كثيراً في سبيل أن تجعل النظام الدولي يدور حولها فقط، وهو ما عجزت فعلياً عن تحقيقه، فقد برزت حالات عديدة من الممانعة في فضاءات إقليمية ودولية، وضعت عوائق كثيرة وجدية في وجّه التفرد الأمريكي لقيادة العالم، وإذا كان عقد التسعينات من القرن الماضي قد جعل أمريكا في حالة ارتياح كبيرة، نظراً لعدم وجود مخاطر استراتيجية تهدد مصالحها، لكن الصعود المتنامي للصين في العقدين الأخيرين دفعها، لوضع الصين، في رأس قائمة التهديدات لأمنها القومي.
قد تكون المقارنة العسكرية بين أمريكا والصين، من حيث الأسلحة والتقنيات والأساطيل البحرية والتحالفات، في غير صالح الصين، فالولايات المتحدة إمبراطورية مترامية الأطراف عسكرياً، مدعومة بتاريخ وإنجازات كبرى في مجال التسلّح، تقف وراءه إمكانات مالية جبارة وأبحاث مستمرة، كما تتمتع الولايات المتحدة بنظام ديمقراطي هو من بين الأنظمة الديمقراطية الأعرق في العالم، ما يمنح قراراتها العسكرية؛ بل ومغامراتها، تأييداً قوياً على المستويين السياسي والشعبي، لكن على الرغم من كل عناصر القوة هذه، إلا أن الصعود الاقتصادي للصين، وزيادة اعتماد الأسواق على منتجاتها، ووجود خطط تجارية اقتصادية عولمية طموحة لديها، في مقدمتها مبادرة «الحزام والطريق»، جعلتها منافساً حقيقياً وشرساً للولايات المتحدة، يستدعي تسخير كل الإمكانات والتحالفات في مواجهته.
في 24 من الشهر الجاري، يستضيف الرئيس الأمريكي جو بايدن رؤساء وزراء الهند واليابان وأستراليا، وهم قادة الدول المنضوية في التحالف الرباعي «كواد» لمواجهة الصين، وتأتي هذه القمة في محاولة لتفعيل هذا التحالف الذي كان قد تأسّس في عام 2004، إثر تسونامي مدمّر في المحيط الهندي، وأخذ التحالف صفته الرسمية عام 2007، وقامت دول التحالف بمناورات بحرية مشتركة، لكن بشكل عام بقيت برامج هذا التحالف وأنشطته غير مركزة، إلى أن جرى تفعيل التحالف مع جائحة كورونا، وعاد صنّاع القرار في واشنطن للتعويل على ما يتضمنه من إمكانات؛ حيث جرت مباحثات أولية في فبراير/شباط الماضي، هدفت إلى وضع تصورات عملية لمواجهة الصين في المحيطين الهادئ والهندي معاً، ما يعني فعلياً العمل على مواجهة زيادة الصين لأنشطتها العسكرية في فضائها الجيوسياسي.
نظراً لوجود حساسيات الجوار، بقيت دول التحالف الرباعي، في وضع توجّس من إثارة أوضاع مواجهة مع الصين، لكن السنوات الأخيرة، شهدت ارتفاع حدة التوتر بين الصين ودول التحالف، وصلت كما هو الحال مع الهند، إلى مواجهة عسكرية حدودية، كما اتهمت أستراليا الصين بالتدخل في سياساتها الداخلية، إضافة إلى التنافس التكنولوجي والتجاري الآخذ في التصاعد بين بكين وطوكيو، مع وجود مشكلات تاريخية بين البلدين، ونزاع غير محسوم على جزر متنازع عليها بين البلدين. وكل هذه العوامل، تجعل من تفعيل التحالف الرباعي مصلحة مشتركة للجميع، تعود إدارة بايدن للاستثمار فيها، لكن هذه المرة في إطار أشمل وأكثر تركيزاً من الناحية الاستراتيجية.
منذ سنوات، أخذ الخط البياني للإنفاق العسكري الصيني في الارتفاع بشكل مقلق، ليس للولايات المتحدة وحسب؛ بل لجيران الصين أيضاً، وقد وصل في عام 2020 إلى 252 مليار دولار، حسب معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام. وعلى الرغم من بقاء حجم هذا الإنفاق بعيداً عن حجم الإنفاق العسكري الأمريكي، المقدر بحوالي 778 مليار دولار، لكن الصين أصبحت فعلياً تحتل المرتبة الثانية عالمياً في الإنفاق العسكري.
في القمة المرتقبة لقادة التحالف الرباعي، ثمة رسائل عديدة موجّهة للقيادة الصينية، وفي مقدمتها أن واشنطن تضع ثقلها في نقل المعركة الاقتصادية والتجارية إلى موقع متقدم، يقع في محيط خصمها الصيني، وأن أمن المحيطين الهندي والهادئ هو أولوية قصوى في أمنها الاستراتيجي، فأمريكا هي إمبراطورية بحرية بالأساس، ولن تسمح للصين بزيادة نفوذها العسكري البحري، وأن واشنطن ستزيد من حجم التعاون العسكري مع جوار الصين، خصوصاً مع الجيش الهندي، الذي أصبح يحتل المرتبة الثالثة عالمياً من حيث الإنفاق العسكري.
بعد أن عمل الرئيس جو بايدن في الأشهر الأولى من حكمه على ترميم العلاقات مع حلفاء بلاده الأوروبيين في حلف الأطلسي، وبعد إعادة الزخم للحلف الرباعي، يمكن القول إن واشنطن ستكثف عملها لبناء النسخة الآسيوية من«الناتو»، لتطويق الصين، وضبط الخط البياني لإمبراطوريتها الاقتصادية، وقوتها العسكرية.