النازية ودحرها حين تتكلم القوة

00:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

على مثال ما كانتِ الإباداتُ الجماعيّة للسّكّان الأصليّين في القارّة الأمريكيّة، في القرن السّادس عشر، وحركة الاستعمار الأوروبيّ لبلدان آسيا وإفريقيا، بين القرنين الثّامن عشر والعشرين، في العنف والوحشيّة والإفناء، كذلك كانت النّازيّة الألمانيّة، في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، امتداداً لهما في العنف ونسخةً شبيهة في الوحشيّة. ولم يكن أبطال هذه المجازر والمآسي، في الحالات الثّلاث تلك، سوى أولئك الذين كان يُفْتَرض أن يكون انتماؤهم إلى المدنيّة الأوروبيّة الحديثة عاصماً - سياسيّاً وثقافيّاً وأخلاقيّاً - لهم من اقتراف هذا الكمّ المَهُول من الفظاعات اللاّإنسانيّة ضدّ البشريّة والقيم!.

ما من شكٍّ في أنّ هذه الحركات الثّلاث (الإبادة، الاستعمار، النّازيّة) ترسم نقطةً سوداء في تاريخ أوروبا ومدنيّتها، ولكن لا بمعنى أنّها تمثّل شذوذاً في ذلك التّاريخ، بل بمعنى أنّها تعكس وجهاً آخر من تلك المدنيّة مظلماً وكالحاً عبّرت عنه عقيدةُ القوّة وثقافتُها في الفكر الغربيّ، بل في الوعي الجمْعيّ الغربيّ. لقد تَجَاور تيّارا الأنوار ونقيضُه وما زالا يتجاوران في الغرب حتّى يوم النّاس هذا، وعبّرا معاً عن ديناميّتين متعارضتين في مجرى تاريخه الحديث. وهكذا بمقدار ما كانت الإنسانويّة، وأخلاق التّسامح، وقيم الدّيمقراطيّة والتّنوير تُنْتج ظواهرها وثقافتَها في المجتمعات الغربيّة الحديثة والمعاصرة، كانت التّيارات الارتكاسيّة: الدينيّة المتطرّفة، واللاّعقلانيّة، والعنصريّة، والظّلاميّة تفرض شريعتها في المجتمع والدّولة، وتكرّس قيم القوّة والتفوّق لتأخذ معها الغرب، برمّته، إلى الانقلاب على نفسه وقيمه.

من ذا الذي يمكن أن ينسى أخبار أهوال الحروب الدّينيّة المديدة، في أوروبا القرنين السّادس عشر والسّابع عشر، وما خلّفته من عشرات ملايين الضّحايا، ومن جروح نفسيّة غائرة بين مجتمعاتها وداخل المجتمع الواحد والشّعب الواحد؟ لعلّها الأطول في حروب التّاريخ بمداها الزّمنيّ الذي جاوز مائة وعشرين عاماً (من عشرينيات القرن السّادس عشر إلى أربعينيات القرن السّابع عشر)! ولعلّها الأعنف من كلّ ما سبقها من حروب: على الأقلّ حرب الثّلاثين عاماً الأخيرة منها التي أنهتها، في العام 1648، معاهدة وستفاليا. هل لهذه الحروب، التي جرت باسم الله والمسيح، أن تكون بذلك القدر من الشّراسة والهمجيّة لو لم تكن تحرّكها عقيدةُ القوّة المتغلغلة في الوعي الجمعيّ؟

ولربّما بَدَتِ النّازيةُ، لكثيرٍ من دارسي حركات العنف في أوروبا والغرب، وكأنّها تعبّر عن لحظة الذّروة في ممارسة فعل القوّة والعنف على نحوٍ أعمى: تجاهَ مواطنيها وتجاه محيطها من الدّول والشّعوب. والحقّ أنّها جنحت، فعلاً، إلى ذلك النّمط الأقصى من صناعة الموت الجماعيّ التي ساقتها إليها عقيدةُ القوّة. والحقّ أنّ عقيدة القوّة هذه وجدت في ألمانيا وإنتاج بعض مفكّريها مصْنعاً لها، وإن لم يكن حصريّاً، ونهلت من ينابيع تاريخيّة فيها (الهجمات البربريّة للقبائل الجرمانيّة على الإمبراطوريّة الرّومانيّة: وهي الفاعل الكبير في إسقاطها من خارجها). ومع ذلك، لم تفعل النّازيّة من المنكرات أكثر ممّا فعله كاثوليكيّو إسبانيا ضدّ العرب ثمّ بقاياهم من الموريسكيّين في الأندلس، وأكثر ممّا فعله الأوروبيّون المستوطنون في القارّة الأمريكيّة، وأكثر ممّا فعلته الحروب الدّينيّة في أوروبا، ولا أكثر ممّا فعلته الغزوات الكولونياليّة الأوروبيّة لبلدان الجنوب المستعمَرة.

لعلّ النّازيّة، التي جرى تظهيرُ بشاعاتها في الكتابات الغربيّة عنها، استحقّت كلّ تلك اللّعنات عليها من دول الغرب لسببٍ معلوم: أنّها احتلّت دول أوروبا واستعمرت قارّة الرّجل الأبيض وأوقَعَت التّنكيل بالنّخب الحاكمة والجيوش، والدّمار والتّحطيم بالبنى الاقتصاديّة. لذلك كان لا بدّ من أن تصير مثالاً أقصى للشرّ. لو فعلتِ النّازيّة في آسيا وإفريقيا ما فعلتْه في أوروبا، لَمَا التفتَ إليها، ولَعُدَّ فعلُها في جملة العمل «الاستعماريّ المشروع» الذي لا يستحقّ إدانةً من الغرب. لكنّ النّازيّة اقترفتِ الذّنب الأعظم بتدنيسها المقدّس الأوروبيّ.

ولقد وَقَع كسْرُ القوّة النّازيّة بقوّة الحلفاء المضادّة: القوّة السّوفييتيّة، أساساً، ثمّ الأمريكيّة لاحقاً. أَكَلَتِ القوّةُ القوّةَ. وكما اقتضتِ القوّة المضادّة تحطيم النّظام النّازيّ واحتلال ألمانيا، قضت بقسمها إلى دولتين خاضعتين للمنتصريْن الكبيريْن في الحرب ضدّ النّازيّة. هكذا فرض قانون القوّة أحكامه في مراحل المواجهة كافّة: بالقوّة وُوجِه جيش هتلر ودُمِّر، وبالقوّة احتُلّت ألمانيا، ثمّ بالقوّة قُسِّمت إلى دولتين وعاصمتُها إلى شطرين. وعقيدةُ القوّة التي أنجبتِ النّازيّة هي عينُها التي أنجبت نقائضها. ولقد دفعت ألمانيا الثّمن ثلاث مرّاتٍ: من نظامها النّازيّ الذي قادها إلى المغامرات، ومن الحلفاء الذين دمّروها وفرضوا تجريدها من السّلاح، ثمّ من تجزئة كيانها القوميّ إلى دولتين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"