رؤية غربية ل«القبح»

00:38 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

من أين تبدأ فكرة الآخر؟ سؤال يفرض نفسه بقوة على القارئ في أعقاب الانتهاء من كتاب «التاريخ الثقافي للقباحة» من تأليف أستاذة الأدب الإنجليزي جريتشن هندرسن، وعلى الرغم من أن الكتاب يبحث في تاريخ القبح، إلا أنه يثير الكثير من الاستفهامات المتعلقة بإدراك الغرب للحضارات الأخرى، وأساليب تعامله مع شرائح معينة من البشر، وتذوقه للجمال.

تؤكد هندرسن أن القبح مفهوم قائم بذاته، وليس حالة نقيضة للجمال، ليس هذا وحسب، بل هناك آراء لفلاسفة و أطروحات لفنانين حول القبح. في الكتاب أيضاً نتعرف إلى نادي الوجوه القبيحة الذي تأسس في ليفربول عام ١٨٠٦، ونطالع كيف همشت الثقافة الغربية حتى عقود قليلة ماضية أصحاب العاهات ومن يتسمون بالقبح، ولكن الأهم من ذلك رصد هندرسن للدور الذي لعبته رؤية الغرب للقبح في العنصرية وحتى التمييز بين الرجل والمرأة.

لقد اقترح أرسطو، على سبيل المثال، قانوناً يمنع الأهل من تربية الأطفال المشوهين، كما كان يرى أن المرأة رجل مشوه، ما انعكس لاحقاً في جرائم مأساوية ارتكبها النازي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل قدم الإغريق رؤية تراتبية للأجناس البشرية أثّرت لاحقاً في صور سلبية روّجها المستعمر الأوروبي خلال مرحلة الكشوف الجغرافية لسكان العالم الجديد، وحتى المخلوقات الفضائية التي نراها في الأفلام الأمريكية سنلاحظ أنها تتسم بقبح بالغ، مع أن الاحتمال الآخر قائم أيضاً، فإذا كانت هناك كائنات عاقلة تسكن كواكب بعيدة فلماذا لا تكون أجمل من البشر؟ ولكنها لعبة الآخر الذي لابد أن يكون قبيحاً.

يستدعي القبح الجمال حتى لو حاولت مؤلفة الكتاب التعامل معه كأطروحة مستقلة. إننا ندرك الجمال بعيون غربية، وهو ما حلله أدب ما بعد الاستعمار كثيراً، والأمر يضم منظومة متكاملة لا تبدأ من خطوط الموضة والألوان ولا تنتهي بالسينما، وإذا عدنا إلى تراثنا، وحتى إلى موروث الشعوب الأخرى سنجد تفضيلات جمالية تختلف تماماً عن المفهوم الغربي للجمال، بل وتتناقض أحياناً مع ذلك المفهوم في رؤيته للقبح.

لم تهمش الحضارة العربية الآخر، ولم ينهمك مفكروها في تشييد ذلك البناء الفكري المشيطن للشعوب الأخرى، صحيح هناك رؤى هنا وهناك تندهش تجاه سلوكات للآخرين، أو حتى تتوقف أمام أزيائهم..الخ، ولكن من باب محاولة الفهم وليس من خلال النظرة الاستعلائية التي تبحث عن تفرد الذات و«تقبيح الآخرين»، إن جازت العبارة، تمهيداً لإقصائهم، كما أن الروح الدينية والثقافية ليس للعالم الإسلامي، وحسب وإنما للشرق بأكمله، لم ترفض المشوهين وأصحاب الحاجات الخاصة، بل تعهدتهم دائماً بالرعاية، وأيضاً لم يحاول أحدهم تأسيس فلسفة خاصة بالقبح، وحتى الآن ونحن نعيش في عصر هيمنة الثقافة الغربية لا يزال معظمنا، والكثير من مثقفينا، يعجزون عن تذوق الأعمال الفنية التشكيلية التي تحتفي بالقبح.

الآخر ليس رؤية فلسفية أو سياسية وحسب، ولكنه ثقافية وجمالية أيضاً، وربما إذا أمعنا النظر سنكتشف أنه رؤية غربية، أولاً وأخيراً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"