تعطيل العقل العربي

00:30 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

استمراراً لحديث الأمس عن علاقتنا، كعرب، بالذكاء، نشير هنا إلى تقسيم أقامه الفيلسوف الألماني شبنجلر (1880 – 1936) حول ما وصفه هو بثلاثة أنواع من الروح، هي على التوالي: الأبولونية ويعني بها اليونانية القديمة، والفاوستية، أي الروح الأوروبية، وأخيراً: السحرية التى قصد بها الروح العربية.
لم تكن غاية شبنجلر من هذا التقسيم إقامة مفاضلة بين الأنواع الثلاثة من الروح، وإنما إبراز ما بينها من فوارق، ليستخلص من ذلك استنتاجات تعين على معرفة التنوع القائم في الثقافات والحضارات، وهو تنوع مفيد ومثرٍ، ويجب السعي لأن نجعل منه كذلك دوماً، لا أن يتحول إلى عامل لزرع الكراهية والنزاعات بين الأقوام.
إلى هذا التقسيم عاد الأديب العربي الراحل جبرا إبراهيم جبرا في حديث له لمجلة «التبيين» الجزائرية قبل نحو ربع قرن، ليفيدنا بأن بعض أهل الفكر من العرب، وهم يتحدثون عن العقل العربي، لم يروا هذا الجانب في الأمر، وإنما جنحوا إلى وصف هذا العقل بالصوتي والتقليدي وغير التركيبي أو التحليلي، من دون أن يبحثوا ملياً في الظروف المحيطة بنشاط أصحابه.
مرة أخرى، فالخلل ليس في أن نسبة ذكاء العقل العربي كمعطى فطري أقلّ من بقية عقول خلق الله، وهذا ما نقله يوسف إدريس عن الطبيب البريطاني الذي أجرى تحليلاً لنسبة ذكاء طفل عربي، وإنما لأن الظروف التي نعيشها هي التي تعطل قدرات هذا العقل.
وفي الحوار المشار إليه مع جبرا لاحظ أن التحولات التاريخية التي مرت بالعالم العربي زعزعته وعزلته، ومنعت عنه القدرة على اللحاق والمتابعة، ويرى جبرا أن سقوط بغداد بأيدي المغول في القرن الثالث عشر بداية عصر الأفول الذي استمر إلى أواخر القرن التاسع عشر، وأصابنا بضمور عقلي جعلنا غير قادرين على متابعة القضايا الفكرية.
وفي التفاصيل أشار جبرا إلى أن الأميّة نخرت في الجسم العربي نحو ثمانية قرون، فكيف يمكن لعقل لا يقرأ أن يكون فاعلاً ومفكراً؟ وعندما وصلنا إلى العصر الحديث كان معظمنا أميين أبجدياً، أو أميين موقفاً، وحاولنا أن نأخذ بتقدم الغرب التكنولوجي قبل أن نستعيد قدرتنا على استعمال الكلمة على النحو الصحيح.
العقل لا يموت أبداً. هذا ما يخلص إليه جبرا، وكل من ذهب مذهبه من أهل المعرفة، لكن هذا العقل بحاجة لتفعيل وإيقاظه من سباته، وهؤلاء جميعاً لا ينطلقون من فراغ، ولا يقولون كلاماً مرسلاً، لأن العقل العربي المعطل اليوم هو نفسه الذي أوجد نحو ألف سنة من الازدهار العمراني والفكري والحضاري في جزء كبير من العالم.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"