عودة إلى العصر الحجري

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

وصل العام الدراسي الجديد متثاقلاً ومخيفاً بسبب تدفق أخبار كورونا المتجدد ومتحوّراته الخطِرة عبر التوصيات الطبية والصحية المكثّفة. وأراني مشدوداً بين مشهدين؛ بل بين جيلين وزمنين ولنقل دمعتين التقيتا: مشهد حفيدي الفاروق يدس «الآي باد» باكراً بمحفظته الحمراء فوق ظهره ملتحقاً نزولاً من الطابق الثاني عشر برفاقه الصغار نحو يومهم المدرسي الأول. غابت الفروق هنا بين الآي باد واللوح الأسود الحجري وجعت العتمة اللبنانيين الشاملة وباتوا خارج زمن الكتابات الفضائية.

اللبنانيون بلا كهرباء ولا محروقات وتحت أرجلهم ثروات نفطية وغازية هائلة تنتظر من حكوماتهم تصويب الحدود البحرية مع إسرائيل وقد باشرت التنقيب.

من رحم اللوح الأسود العتيق وروحه، ولد «الآي باد» المضيء في عصر الفضاء الباهر رابطاً بين الأجيال البشرية في المدارس وطلاب الجامعات والحياة مخزناً للأجوبة الجاهزة عن أسئلة البشر إلا في لبنان. إنه الأعجوبة التاسعة بكل اللغات لا داعي لترجمته والسؤال عن مرادفه مجامع اللغة العربية المتقاعدة في عصر الكتابة الضوئية.

يشاطرني تذكّر هذا اللوح الحجري الأسود أجيال عربية. لقد اعتدت صغيراً أن أعلّق باللوح طبشورة كنت أحرص عليها وكأنها أثمن من إسوارة ذهبية رقّت في زند أمي بعدما براها الغسيل، وكنا نراها رمز فقر تُضيء دروب مستقبل الأبناء وأحلامهم. كان واحدنا يدس اللوح في كيس من القماش الخام خاطته أمه بالطبع. يعلقه بعنقه ويعدو مسابقاً برد الصباح نحو مدرسة مفترشاً الحصير للدراسة أو متقيلاً سنديانة هرمة باقية أو زاوية جامع. كان هناك إطار خشبي يحرس هذا اللوح الحجري المستطيل رفيق مساحة تعليم الصغار من جدول الضرب إلى علوم الدين وما شاءت فضائل الفقر.

قد يسأل أحد: متى كانت الكتابة قبل اللوح الأسود؟

في مصر قبل 3000 سنة ق.م. ويقال في سومر جنوبي العراق 3300 سنة ق.م.، وفي العصر الباليوليثي قبل 45 ألف سنة على شكل رسوم في الكهوف في فرنسا وإسبانيا وبعض مناطق جنوب شرق آسيا، وربما قبل ذلك ب20000 سنة، كما تظهرها رسمة إنسان النياندرتال في كهف إلكاستيللو في إسبانيا. ليس مهماً الجواب الثابت سوى القول إن الكتابة بمعناها المقصود ظهرت بيضاء فور اكتشاف الحجر الأسود وحكّه بالأظافر أو بالمسامير. يومها انبثق عصر الكتابة البيضاء على صفحة الحجر الأسود وصولاً إلى الآي باد هذا الحفيد الذكي للحجر الأسود بعد اقتران الأذن بالعين؛ حيث وُلدت الشاشات.

نعم العين. تلك البويضة التي تفتح جفنيها وتحشر الدنيا فيها من دون أن تخدش رمشيها. يا لهذا الاقتران التكنولوجي الذي يولّد أجيالاً بلغت الذكاء الاصطناعي.

يقيم بين اللوحين، خلافاً للبنان، تاريخ من الثقافات اللامتناهية التربوية والثقافية والسياسية والاقتصادية والإعلامية وما شئت من كلمات تنتهي بالياء والتاء المربوطة. إنه تاريخ يذكّرنا بسلّم طموح أهل بابل في العراق بالصعود إلى السماء، وإليه ننتمي اليوم لنتخالط ونتعارف شعوباً وأجيالاً صامتة سعيدة من مختلف الأعمار والأجناس عبر لعبة أزرار لا تحتاج الكثير من المعرفة بقدر ما تفترض القليل من الخبرة والمهارة والخفّة في تحريك الأصابع ولربما السبابة بالنسبة للآباء والأجداد. كلما ارتفعنا درجة ضمُرت الأشياء ورمتنا في عصر التغريدات التويترية التي تجتاح رؤساء الدول والبشر ونشرات الأخبار فترسّخ كسلاً في الكتابة ويكسد الحبر وتبكي الأقلام المصفوفة أمامنا فوق الطاولات وقد براها الصدأ، وقد يسألك حفيدك يوماً ما هذا فتشرح له بأنه كان يُسمى القلم!.

تلهث وسائل الإعلام وبقايا الصحافة المكتوبة خلف عصر الفضاء والحذف والاختصار والتراند وانتشار الثقافات المحكومة بالصدفة والعشوائية والفوضى المنظّمة التي تفرضها الشاشات؛ إذ انقلبت العصور على قفاها، وغاب الزمن الذي قال فيه صحفي فرنسي باعتزاز لرئيس تحرير الصحيفة:

ما هذا الحجم الضخم والرائع؟ تستلزم صحيفتنا خمسة كراس لفلشها وقراءتها. عندما ظهرت الجريدة الرسمية في فرنسا مثلاً أثارت موجات من الإعجاب والسخرية والنقد، فعلّق أحدهم أن ثلاثة أعداد منها كافية لصناعة «بارافان» أي حاجز كامل بين غرفتين! بينما قال رسّام الكاريكاتور إنه يتطلّع للوصول إلى طباعة صحيفة بحجم الشانزيليزيه أو ساحة برج إيفل.

لماذا؟ لأن حجم الصحيفة كان يعكس في الأذهان مستوى عبقرية الأمة والصدر الرحب وطموحات الدولة وعظمتها. خرجت الصحافة بمعظمها من المكاتب الواسعة المتماهية بمساحات السلطات، وحُشر الكتّاب أمام ألواحٍ زجاجية. الوقت ضيّق لن تّسع سوى لإنتاج برامج تتدفق بالمال: The time is money. بالمقابل: لبنان يعود إلى العصر الحجري واللوح الأسود.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"