مئوية الدولة العراقية

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

خصّص ملتقى الرافدين للحوار مؤتمره السنوي لبحث إشكاليات الدولة العراقية ومشكلاتها بعد مرور 100 عام على تأسيسها في 23 أغسطس/ آب 1921، بحضور رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان وشخصيات سياسية وازنة ونخبة من الأكاديميين والباحثين والمفكرين، تحت عنوان «العراق في مئة عام: مسارات مضطربة وأزمات متجددة».

وكان المؤتمر فرصة للحوار وتبادل وجهات النظر واستمزاج الآراء والاستئناس بأفكار ذات مشارب مختلفة، ومن شخصيات عراقية وعربية ودولية تمثل اتجاهات متنوّعة، فالحوار لم يعد ترفاً فكرياً، أو نزوة عابرة، بقدر ما أصبح ضرورة وامتيازاً في آن، بعد أن وصلت العملية السياسية التي تأسست بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، إلى طريق مسدود، واستمرار ظاهرة انتشار السلاح خارج الدولة، وتغوّل جهات ما دونها لتصبح ما فوقها في ظلّ نظام يقوم على المحاصصة والتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني.

وكان المؤتمر أيضاً فرصة لإعادة قراءة التاريخ، خصوصاً فترة العهد الملكي، وحصول العراق على الاستقلال، حتى إن كان شكلياً ودخوله عصبة الأمم، حيث تم تشييد أساسات الدولة العراقية بهياكلها المعروفة، ودواوينها وقوانينها وتطبيقاتها وخططها الاقتصادية ومشاريعها العمرانية، وحتى إن كانت الحريات شحيحة إلا أنه شهد نهوضاً ملحوظاً، وتطلّعاً نحو الحداثة والتقدم.

وعلى الرغم مما حققته ثورة 14 يوليو/ تموز1958 من منجزات سياسية واجتماعية واقتصادية، وفي مقدّمتها الخروج من حلف بغداد، وانتهاج سياسة تحررية وتحرير العملة العراقية من شرنقة الكتلة الاسترلينية وتشريع قانون تقدمي لمصلحة المرأة في عام 1959 (قانون رقم 188)، وآخر لتحرير الثروة النفطية في عام 1961 (قانون رقم 80 )، إلاّ أن العراق عاش أوضاعاً استثنائية وفترة انتقالية، وشهد حرباً ضد الشعب الكردي واندلاع أزمة المطالبة بضم الكويت، ما سهّل الإطاحة بالجمهورية الأولى في عام 1963، وزاد من التضييق على الحريات العامة والخاصة وانتهاج سياسة استبدادية.

وبعد انقلاب 17 يوليو/ تموز 1968 حُكمت البلاد بالحديد والنار لنحو 35 عاماً، وشهدت خلالها حروباً عبثية داخلية وخارجية، أبرزها الحرب العراقية – الإيرانية ( 1980 – 1988)، واحتلال الكويت عام 1990، وما أعقبها من ردود فعل دولية بالحصار الشامل وصولاً إلى الاحتلال عام 2003.

وبعد الإطاحة بالنظام السابق زادت الانقسامات الداخلية الطائفية والإثنية التي جرى اعتمادها منذ مجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، والتي انعكست على قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية والدستور الدائم النافذ لعام 2005، والذي قام على مبدأ المكوّنات، ابتداءً من الديباجة والمواد 9 و 12 و 49 و 125 و 142، وليس ذلك سوى إقرار بالمحاصصة القائمة على الزبائنية السياسية والمغانم والمكاسب، بعيداً عن مستلزمات المواطنة والكفاءة والإخلاص للوطن.

وحسب ماركس، فإن الذي لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكراره، فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإن حصل ذلك ففي المرة الأولى كمأساة، وفي المرّة الثانية كملهاة، علماً بأن التاريخ ماكر ومراوغ حسب هيجل، وبالطبع فلكل تاريخ فلسفة، وفلسفة التاريخ تقوم على معرفة الماضي لدراسة الحاضر واستشراف المستقبل، لأن التاريخ هو أبو العلوم، أما الفلسفة فهي أمّها. وكان كيسنجر أجاب أحد طلّابه الذي سأله كيف يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه، بأنه حمل معه كتب التاريخ والفلسفة، فمعرفتهما كفيلة بوضع الخطط الصحيحة للحاضر والمستقبل، وهو ما حاولناه منهجاً عند بحثنا للدولة العراقية.

لقد عانت الدولة ثلاث إشكاليات لا تزال تعيش معها لدرجة أنها أصبحت معتقة، وهي المشكلة الكردية التي تفاقمت وأصبحت شبه مستعصيه بفعل الاضطهاد المزمن، والمسألة الطائفية وهشاشة المواطنة بسبب قوانين مجحفة للجنسيّة وممارسات تمييزية.

وحسب الملك فيصل الأول فإن البلاد العراقية تنقصها الوحدة الفكرية والمليّة والدينية، وتعاني اختلافات شيعية وسنية وكردية «وأقليات غير مسلمة» كما أسماها، ما أطلقت العنان له منظومة 9 إبريل/ نيسان 2003 ليصبح معياراً في توزيع المسؤوليات والوظائف، الأمر الذي أضعف هيبة الدولة وعرّضها للتعويم.

وإذا عدنا إلى مذكّرة الملك فيصل الأول 1932 فهي دعوته إلى الوطنية الصادقة (وتجاوز) الكتلات البشرية المشبّعة بتقاليد وأباطيل دينية، وتشكيل شعب سعى لتهذيبه وتدريبه وتعليمه، وذلك أحد دروس التاريخ وفلسفته التي على العراقيين وضعها نصب أعينهم إذا أرادوا إعادة بناء الدولة على أسس موحّدة وسليمة معيارها حكم القانون والمواطنة واستقلال القضاء، والإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"