ميركل والاقتصاد القوي

21:23 مساء
قراءة 4 دقائق

د.لويس حبيقة *

تقاعدت «أنجيلا ميركل» من السياسة الألمانية الداخلية وحل حزبها ثانياً في الاستفتاء الشعبي. من الممكن أن تحصل على مراكز دولية لاحقاً في الأمم المتحدة مثلاً، لكن فترة ما بعد قيادة ألمانيا ستكون لبعض الراحة. عموماً تمر الدول واقتصاداتها بفترات صعبة بعد حروب أو خضات داخلية. ليست هنالك دولة مرت بتجارب مرة أكثر من ألمانيا، أي حربين عالميتين دمرتا كل شيء. أعادت الحكومات المتعاقبة البناء بذكاء وسرعة ودقة ونجاح. أعادت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بناء نفسها مع ديمقراطية ترسخت في العقلية والممارسة والحياة السياسية. نجحت ألمانيا وتخيف اليوم حتى أقرب حلفائها. 

ارتكز النموذج الألماني الناجح على مزايا عدة أهمها دولة لامركزية توزع النجاحات على كل أنحاء البلاد. بعد الوحدة في تشرين الأول 1990، انتقلت العاصمة من بون في القسم الغربي إلى برلين الموحدة. هذا يعني سياسياً الكثير، أي انتقلت العاصمة من مركز لا يبعد أكثر من 200 كلم عن باريس إلى آخر يبعد 800 كلم عن العاصمة الفرنسية. ابتعد المركز السياسي القوي عن قلب أوروبا، أي عن باريس العاصمة.

هنالك مراحل عدة مميزة في الحياة الاقتصادية الألمانية أهمها فترتا حكم «هلموت شميدت» (1974-1982) و«غيرهارد شرودر» (1998-2005). هما من الحزب الديمقراطي الاجتماعي SDP الذي فاز في الانتخابات الأخيرة والواقع على يسار الخريطة السياسية الداخلية. طبعاً ميزان النجاح والفشل يخضع للتفسيرات غير الموضوعية في معظم الحالات، إلا أنه يمكن القول إن شميدت العارف اقتصادياً قرّب ألمانيا كثيراً من الولايات المتحدة. كما أن شرودر فتح الاقتصاد على المنافسة أكثر من أي مستشار سابق. حرر شرودر سوق العمل وخفض الضمانات الاجتماعية لتخفيض تكلفة العمل وبالتالي رفع الإنتاجية. نتج عن سياسات شرودر ارتفاع نسب الفقر والفجوة المادية الداخلية كما تدنت الاستثمارات في البنية التحتية التي هي ركيزة أي تطور صناعي وتكنولوجي. منذ ذلك الحين أي من 2005 سمحت الأوضاع الداخلية والدولية للحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة «أنجيلا ميركل» بالفوز والبقاء في الحكم. ركزت ميركل سياساتها على رفع الاستثمارات العامة، فنتج عنها انخفاض كبير في البطالة إلى 3,2% قبل اجتياح كورونا للعالم أجمع.

من ميزات النموذج الألماني الناجح إعطاء قوة كبيرة للموظفين والعمال في إدارة الشركات، أي أن صوتهم قوي وفاعل ولهم حق نقض القرارات. فالشركات الألمانية لا تخضع فقط لقرارات المالكين، إذ للعمال صوت فاعل وأساسي. من المساوئ، التقارب الكبير بين الشركات والمصارف عبر التعاون أو الملكيات المشتركة، مما يخلق فرص تضارب مصالح خطرة. أما دور المرأة في الاقتصاد، فارتفع كثيراً منذ قدوم ميركل إلى الحكم ومن غير المتوقع أن يتغير ذلك أياً كان المستشار الجديد. في كل حال، هنالك اهتمام كبير من كل الأحزاب الألمانية بالشؤون البيئية، ومن المتوقع أن يبقى ذلك مع المستشار الجديد.

الفارق الكبير مع فرنسا يسمح بالتعمق أكثر في فهم الوضع الألماني الحالي. ليس هنالك في ألمانيا مدينة بأهمية باريس في فرنسا. هنالك مدن عدة متقاربة في الدولة الألمانية لذا يوزع النمو أكثر على كل البلاد بينما في فرنسا لا شيء يعادل قوة باريس وبالتالي مركزية التنمية واضحة. الديموغرافية الألمانية مكثفة أكثر من الفرنسية أي 231 شخصاً في الكلم المربع مقابل 114 في فرنسا و 255 في بريطانيا. عدد سكان فرنسا اليوم 67 مليوناً والألمان 83 مليوناً لكن بفضل السياسات السكانية التي تعتمدها فرنسا سيصبح عدد الفرنسيين 72 مليون نسمة في سنة 2060 مقابل 66 مليوناً للألمان فتنقلب المعادلة تدريجياً وهذا ليس لصالح ألمانيا التي تحتاج لليد العاملة.

لم تكن لألمانيا مستعمرات على عكس فرنسا، لكنها استقدمت العديد من الجنسيات أهمها التركية وهذا يخلق لها اليوم مشاكل ثقافية واقتصادية. بالعكس هاجر العديد من الألمان بسبب الحروب إلى دول أمريكا اللاتينية وغيرها، وشكلوا قاعدة تسويقية أساسية للمنتجات الألمانية. الماكينة التصديرية الألمانية مدهشة في فعاليتها ونجاحها، ولها معجبون في كل العالم وربما لا يقاربها في النجاح إلا النظامان الكوري الجنوبي والياباني. الماكينة الصينية مختلفة، وجميعنا يميز بين الجودة الألمانية والإنتاج الصيني في مختلف المجالات وخاصة في التكنولوجيا. على عكس ألمانيا تعتمد فرنسا على القطاع العام لتسويق منتجات القطاع الخاص.

إنتاجية العمل الألماني كبيرة وتشير الإحصائيات إلى أن بين 1948 و1951، ارتفعت إنتاجية العمل 50% مع ارتفاع الأجور بنسبة 25% فقط. بين 1950 و1955، تدنت نسبة البطالة الألمانية من 10,4% إلى 5,2% لتصل بعدها إلى 1% في سنة 1960. فائض العمال الألمان الذين أتوا لاحقاً من ألمانيا الشرقية سمح للأجور بأن تبقى نسبياً منخفضة. ألمانيا هي البلد الغربي الوحيد الذي ارتفعت فيه نسبة العمالة بين سنتي 2007 و2012 بالرغم من الركود الكبير.

تتعدل السياسات الاقتصادية الألمانية مع الوقت، لكن هنالك محطات مهمة وشخصيات كبيرة ميزت الاقتصاد الألماني.

اعتمد ارهارد في برنامجه على ما يعرف بالليبيرالية المنظمة أي المضبوطة من قبل الدولة منعاً للاحتكارات وحماية للمنافسة. سعى النظام الجديد لخلق الأجواء المناسبة للمنافسة، مع تنسيق بين السياسات الاقتصادية تحت رقابة سلطات عامة تحمي الحريات والملكيات وتضرب الاحتكارات والمصالح الفاسدة. دولة ليبيرالية قوية تمنع عملياً العودة إلى النازية الفكرية المرتكزة على القمع وعلى سيطرة القطاع العام على الاقتصاد.

 *كاتب لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"