من يختصر دبي في وادي السيليكون؟

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

ليرفع الحبر العربي قبّعته، أوّلاً، أمام الصورة الحضارية الرائعة التي طرّزتها دبي وحنّتها وزفّتها طرحة إبداع متألقة فوق وجه العالم المشارك والحاضر معرضها البديع الذي افتتح في 30 أكتوبر/ تشرين الأول. صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي توقفت ربّما منذ يومين لهول ما سمعنا وقرأنا من مقارنات وتعليقات البشرية التي حاولت الارتفاع إلى مصاف اللحظة في دبي، لكن بعضها. لم يكن على مستوى الحدث المبهر. هذه الاستهلالية يفرضها المقال والمقام احتراماً لقدسية الحبر واللحظة.

ليس معقولاً أن يستمر كاتب عربي طارحاً نصوصاً ل«اللايك» والتعليقات السريعة أكثر منه للقراءة أو للمناقشة والتأثير في جمود بعض المسؤولين وفي أطر من العقلانيّة ورصف الحجج والبراهين. اللهاث خلف المستقبل يفترض الريادة وشجاعة الفهم والوعي والعمران بين العرب وفي عواصمهم وشعوبهم. لم يركن حبر العرب الراهن إلى أية ضفّةٍ مستقرّة من المغرب والجزائر إلى تونس ومصر وليبيا واليمن والعراق وسوريا ولبنان. نقفز من وطن لآخر بنصوص بائرة لا توازي اختناق سمكة قبل لفظ روحها بالدعوة لحريّة الأقلام والأوطان وقد أجهضت شعوبها بمعارك الأديان والمذاهب والإرهاب.

تُراكم النصوص العربيّة والإسلامية تراثاً في مقولات التغيير والتطوّر وإمكانات التخطّي والتجاوز. هذا وضع كارثي أن تصبح الكتابة العربية تراكماً بليداً وتجدّد أزمات وتشظيّات وافتراق. ليس سهلاً، تدوين مدى العجز والقهر والمكابدة لدى المفكّرين والكتّاب وأساتذة الجامعات العرب، توصيفاً لعالمهم المُثقل المتردّد بين مآسي الحاضر وملامح المستقبل.

لست أبحث في الكتابة المتكرّرة المقتضبة، إذاً، إلا عن بؤس نصفنا فوق مواقد «الثورات» حيث رماد الكلام والأحزان. لنقل بكلمتين، لقد رُمينا شعوباً وقبائل بين أصابع الدول الكبرى تقرقعها بمصالحها من مختلف الجهات الأربع، وتمشي أمامنا، وانقسمنا أبداً بين شرق وغرب مع أن ملامحهما غابت فوق الخرائط الجديدة. وبقينا اشتعالاً بين دين ودين، وطائفة وطائفة، ومذهب ومذهب، وخلطنا عرباً بعرب توحّدهم مياه المتوسّط هاربين بقوارب من بعض أنظمتهم وتواريخهم نحو الشمال حيث تصدير الرعب من المعضلة الإرهابية المشتعلة في رؤوس الدول التي تُقلقها تداعيات الهجرة في أوروبا والعالم.

تلك هي الصورة البانورامية في مشرق العرب ومغربهم، لكنها بفصاحة مطلقة تغيب، نعم تغيب، ولا يمكن معاينة آثارها في بلدان الخليج التي تُقدّم صوراً منخرطة في الحضارات والمخترعات ومواكبة الطاقات البشرية والبرامج المستحدثة بكثير من التواضع الجمّ والصامت. متى تخرج قيادات بعض هذا الشرق العربي بحلله المتنوعة وغناه الأرضي والسماوي، نحو دول العالم وتخومها فتتخلّص من تلك الصيغ والأفكار الغابرة التي شهدتها تواريخها الموصومة بالوصايات التي ما زال البعض يلقنها في المدارس؟

إن استيلاد التجارب الفرنسية والإنجليزية والعثمانية الغابرة التي حكمت بلادنا أربعة قرون، ومثلها التجربة الأمريكية التي اختصرها بايدن من سماء أفغانستان باستحالة التغيير وتصدير الديمقراطيات والحريات بالقوة، هي دمغة العلاقات الدولية التي لا يمكن إهمالها في قراءات المستقبل ومتطلباته لأجيال كونية نحن في صلبها، سواء أقمنا في الشرق أو في الغرب. ليس من ينخرط في العصر عنّا؟

لربما يبقى الواقع فاعلاً متدرّجاً بلباس العروبة العادلة العقلانية بمعانيها ومراميها واصفين أو ناقلين أو مترجمين كوارثنا بالإلحاح على الانتماء إلى مجتمعاتنا وأوطاننا في إطار من الانخراط بالتجارب النهضوية المتواترة التي سبقتنا، وجعلت غيرنا يلمس الغرب والشرق من حولنا بخوض التجارب التي أوصلتهم إلى المرّيخ ثم تطوّع أصابع العالم العشر لتقول نعم للتطور والتغيير.

تراجعت قيمة التاريخ الفردي والوطني بعدما صار التاريخ كونياً، ومثله الثقافات التي تهزأ من التشاوف والافتخار والانتفاخ والتورّم الكتابي الاجتراري بماضٍ قد يقسّم الوطن الواحد ويبعثر الأفكار والإبداع بين الماضي المستقبل، ويورث معضلات عسيرة بين «ديانات» الآباء والأجداد الفكرية و«ديانات» الشابات والشباب والأبناء والأحفاد.

إنّ الإقرار العلمي بالاختلافات والافتراقات بين العرب قائم ولو بدا مستحيلاً في التفكير والتعبير. هو الواقع المرّ كي لا تستمرّ الكتابة تموجاً بين حبرين: واحد يسيل خلف الدماء والخرائب يغطّيها ويذكيها سعيداً، وآخر يحمل مياه المتوسط لإطفاء الأحزان والأحقاد السياسيّة والمذهبيّة الدفينة. للحبر أن يتخلّص من مشقّة الكتابة بين عرب وعرب، أو بين غرب وشرق، أو بين مسلمٍ وآخر، ومسيحي وآخر، في عصر الكوكبة وانفتاح الآفاق. ليس للأوطان والأنظمة المتعثرة بقدميها سوى اللحاق بالعصر في مساحات الأرض الفضاء.

ليتني أقرأ عصارات «البيغ داتا» التي صبّتها البشرية في وادي السيليكون.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"