الفرد والجماعة

00:07 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

يحكى أن رجلاً معافى أتى للإقامة في بلدة كل أهلها يعانون عاهتي العور والعرج، فلما رآه أهلها هاجمته جموعهم لأن عينيه ورجليه سليمة. 
من أورد الحكاية، وهو الناقد نيقولاي تشيرنيشيفسكي، اعتبر القول كاذباً. هم لم يهاجموه لأن لا عاهة في إحدى عينيه أو رجليه، وإنما لأنهم عدّوه دخيلاً عليهم، ولكن ما إن هدأت نفوس المحتجين على اقتحامه حياتهم، وألف هو العيش معهم، حتى راح هو الآخر يضيق إحدى عينيه متظاهراً بالعور، ويعرج بإحدى رجليه مثلهم.
تواصل الحكاية القول إن الرجل سرعان ما نسي أنه لم يكن أعور أو أعرج، واعتاد على وضعه الجديد، وعندما نشأت حاجة لديه لكي يبصر بعينيه الاثنتين لرؤية ما عجزت عين واحدة عن رؤيته، ولكي يجري برجليه، لا برجل واحدة لم يقدر على ذلك، وبدا له أن العين المغمضة لن تفتح أبداً، وأن الرجل العرجاء لن تنتصب بعد ذلك؛ لأن أعصاب وعضلات المفاصل فقدت لياقتها للحركة، ولم تعد قادرة على إتيان ما كانت تأتي به قبل أن يفد الرجل إلى البلدة.
يمكن قراءة هذه الحكاية على أكثر من وجه، فمثلاً يمكن لطبيب أن يدلل بها، كي يشرح لمريض أهمية حركة عضلات الجسم الواهنة من أجل تنشيطها، ويمكن أن تُقرأ من زاوية العلاقة مع الآخر الغريب حين يجد نفسه في مجتمع غير ذاك الذي نشأ وتربى فيه وتمثل عاداته وتقاليده، فيواجه صعوبات مزدوجة، فللتغلب على الشعور بغربته على المجتمع الذي حلّ فيه، سيحتاج إلى وقت قد يطول، وقد يستمر العمر كله في حال بقي في هذا المجتمع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه في أعين القوم الذين قدم إلى موطنهم يبقى غريباً مهما امتد الزمن.
لكن أهمّ دلالة يمكن أن تحملها الحكاية هي تلك التي يطلق عليها «ثقافة القطيع»، ويقصد بها ضيق أو غياب المساحة الخاصة بالفرد لأن يكون مختلفاً، ولو في بعض الأمور، عن المحيط الذي هو فيه، وهو قول لا يعني هجاء ثقافة أو عادات أي مجتمع بالضرورة، فقد تكون العلة في الفرد المختلف نفسه أيضاً، وليست منحصرة في المحيط من حوله فقط، ولكن الحكاية تعيننا على فهم العلاقة المعقدة بين الفرد والجماعة، وهي معقدة بوجهيها، فإلى أي حدود تسمح الجماعة بهامش الاختلاف للأفراد المكوّنين لها، عما ترى هي أنه يجب أن يسود من رأي ونظر؟ وإلى أي حدود يحق للفرد الخروج عما يعدّ ثوابت للجماعة؟ ويظل السؤال الأهم: أليس من يضعون «الثوابت» هم أفراد في نهاية المطاف؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"