حرية الثقافة والعولمة

21:53 مساء
قراءة دقيقتين

د. باسمة يونس

تبرز العولمة والهوية الثقافية محلاً لنقاش ساخن تدافع فيه الشعوب عن هوياتها الثقافية والاجتماعية في العصر الجديد الذي استدعى ظهور هويات جديدة متجانسة جلبها التغيير الاجتماعي، ما قد يجعل الموقف بشأن العولمة والهوية الثقافية معقداً للغاية، وبحاجة إلى مزيد من الدراسات لتحليل آثار التنوع الثقافي والتعايش بين الهويات الثقافية المختلفة في مجتمعات اليوم.

ولكي نفهم العولمة بشكل أكثر دقة ومدى تأثيرها في الثقافة نحتاج إلى تكوين فكرة واضحة عن الثقافة، ومعناها، ولكي يتوضح لنا أيضاً كيف يمكننا التعامل مع ديناميكية العولمة المتسارعة. فالثقافة ليست جامدة كما يعتقد البعض، بل تتغير مع تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع اتصالها بالثقافات الأخرى من خلال العلاقات التجارية أو السياسية، لكنها في الأساس تبنى من قبل الناس الذين يختارون ما يقبلونه وما يرفضونه، أو حتى ما يقومون بدمجه منها في ثقافتهم.

وقد تعكس العولمة إلى حد ما، نظرية التقارب والسيطرة المستحكمة بسبب هيمنة العلم والتكنولوجيا والتنمية الاقتصادية، لكن العولمة في الواقع تعزز الهوية الثقافية في العصر الجديد، وتجلب وعياً أكثر من المتوقع، فهي وإن عكست نوعاً من التقارب يخشى الناس أنه يذوبهم ثقافياً، لكنها وبمعنى أعمق تجعل الناس أكثر اهتماماً بثقافتهم لأنها تزيد لديهم الشعور بالذات، والمجتمع، والأمة.

ولا يتعارض معنى العمل الجماعي المصاحب للعولمة، على الإطلاق، مع التنوع، بل يمكن أن يشكل تفاعلاً مثمراً، ويجعل العالم أكثر تنوعاً وتعاوناً ومشاركة من دون خوف من انصهار الهويات، فالناس يبنون هوياتهم ويختارون أسلوب حياتهم بحرية مطلقة، ما يجعلهم مستعدين للدفاع عنها بقوة.

لقد تواصلت المجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم على مدى قرون عدة، وربما تكون زيادة وتيرة التواصل مؤخراً، وبشكل كبير بعد أن حولت ثورة الاتصالات العالم إلى قرية صغيرة وجعلت الشركات متعددة الجنسيات من العالم سوقاً واحداً وأكثر ترابطاً من أي وقت مضى، سبباً في القلق، لكن الناس مستمرون في البحث عن جذورهم الثقافية والدفاع عنها. ومع احترام تنوع الشعوب وثقافاتهم الذي يؤدي إلى مجتمع عالمي جديد يتسم بالوحدة، لكن الثقافات تبقى مختلفة ومتعددة، وغير مذوّبة، أو محكومة بنوع واحد، وليست متجانسة تماماً، فلربما تتجانس السلع الاستهلاكية التي يستخدمها الناس في جميع أنحاء العالم بفرض من قوى السوق، لكنهم يستخدمونها بطريقتهم وحسب ثقافاتهم، وبحريّة تامة، بغض النظر عن العوامل الخارجية.

وخلاصة القول أنه لا يمكن للنزعة العالمية أن تقضي على التنوع الثقافي، لأن الناس يتمسكون بثقافاتهم التي يضفون بها طابعهم الإنساني والاجتماعي على ما حولهم، والعولمة لا تستطيع التحكم في ثقافة الناس، أو علاقاتهم مع بعضهم بعضاً، أو سلبهم حريتهم في البحث عن معنى وهدف في الحياة، بل يقتصر التجانس الذي أحدثته العولمة على المستوى المادي للسلع الاستهلاكية التي يستخدمونها لا أكثر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتبة ومستشارة في تنمية المعرفة. حاصلة على الدكتوراه في القيادة في مجال إدارة وتنمية المواهب وعضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ورابطة أديبات الإمارات. أصدرت عدة مجموعات في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرح والبرامج الثقافية والأفلام القصيرة وحصلت على عدة جوائز ثقافية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"