د. محمد الصياد *
في ظرف أيام معدودة، عاد الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز)، الذي ظل على مدار السنوات الثلاثين ونيف الماضية (منذ توقيع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ UNFCCC في عام (1992)، الهدف الأول «للجبهة العالمية العريضة» المشتغلة بمكافحة ظاهرة التغير المناخي - عاد بقوة ليفرض نفسه مرة أخرى كمصدر أول وأساسي لا غنى عنه للعالم، لتوليد الطاقة. فجأة وجدت أوروبا وآسيا والولايات المتحدة نفسها، بدرجات متفاوتة، في أزمة طاقة، تضاعفت فيها خصوصاً أسعار الغاز في أوروبا وآسيا بصورة غير معقولة (تجاوز سعر الغاز في أوروبا لأول مرة في التاريخ 1000 دولار لكل ألف متر مكعب مقارنة بحوالي 10 دولارات)، ما تسبب في تقليص الشركات الصناعية في بريطانيا وإسبانيا وغيرها، لأنشطتها، فيما شهد عدد من المقاطعات الصينية، انقطاعات للإمدادات الكهربائية. ورغم عدم إصابة الولايات المتحدة وكندا «بالعدوى» (لتوفرهما على إمداداتهما الخاصة بهما من الغاز)، إلا أنهما عانتا ارتفاع أسعار الطاقة الذي سيضاعف جرعة التضخم. وبالفعل قام عدد من موزعي الغاز الطبيعي الكندي بإخطار زبائنهم بأنهم سيرفعون الأسعار اعتباراً من أكتوبر بواقع حوالي 8 دولارات شهرياً.
وقد تقاذف المسؤولون في روسيا وأوروبا الاتهامات بالمسؤولية عن ارتفاع أسعار الغاز في العالم بصورة غير معقولة. الأوروبيون اتهموا روسيا بتقليص إمدادات الغاز إلى أوروبا كورقة ضغط سياسية عقاباً لها على مسايرة واشنطن في عقوباتها الاقتصادية المفروضة على روسيا. روسيا من جانبها، اتهمت، على لسان رئيسها فلاديمير بوتين، أوروبا بالمسؤولية عن ارتفاع أسعار الغاز بسبب تفضيلها العقود قصيرة الأجل على عقود الغاز طويلة الأجل. وهذا هو الأرجح، فقد طمعت أوروبا في شراء الغاز من الأسواق الفورية (Spot markets)، ومن المزودين (ومنهم روسيا) للاستفادة من الأسعار المنخفضة. فكان أن ردت روسيا بخفض الإمدادات لخلق أزمة معروض بهدف رفع الأسعار.
لكن المسألة، التي تقارب الأزمة، تتجاوز مجرد خفض تكتيكي لمعروض الغاز، حتى ولو أدى إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن روسيا ستزيد إمداداتها من الغاز الطبيعي، عبر أوكرانيا، إلى أوروبا، إلى خفض الأسعار بنسبة 10% يوم الأربعاء 6 أكتوبر 2021. الأمر يتعلق، وهو ما كان حذر منه كثيرون، بسياسة الهرولة التي يتبعها بعض حكومات الدول النافذة في الاتحاد الأوروبي، نحو الطاقات المتجددة، وسرعة التخلص من مصادر الطاقة الأحفورية الثلاثة: الفحم والنفط والغاز. وهو ما نبه إليه الرئيس الروسي في تصريحه بالقول إن أوروبا تتحمل مسؤولية ما حدث، بسبب ما أسماه «قراراتها غير المتوازنة، وخطواتها الراديكالية»، في إشارته إلى تعجلها في التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري، نحو الطاقات المتجددة. وما حدث يعزز بالفعل ما دأب الرئيس الروسي على ترديده، وهو أن العالم بحاجة إلى النفط والغاز والفحم، ويتعين عليه أن يركز على الاستخراج والإنتاج المسؤولين، في ضوء ما يلوح في الأفق من احتمالات انقطاع التيار الكهربائي في الشتاء وارتفاع أسعار الطاقة، ليس فقط في أوروبا، ولكن في آسيا والولايات المتحدة أيضاً.
وفي الواقع فإن ما حدث يعود إلى نقص الإمدادات وارتفاع تكاليف الإنتاج على مدى سنتين ونيف من الجائحة، وإلى تخفيف قيود الإغلاقات وعودة النشاط الاقتصادي إلى مستوياته ما قبل الجائحة، حيث بدأت أسعار السلع والخدمات ترتفع بصورة متزايدة، وبضمنها الغاز الطبيعي، خصوصاً مع حلول فصل الشتاء. في الوقت نفسه، أدت عوامل عدم اليقين بشأن الوباء العالمي إلى إحجام المنتجين عن القيام باستثمارات رأسمالية كبيرة في أعمال الحفر الجديدة، ما أدى إلى استنزاف مخزونات الغاز الطبيعي ووصولها إلى أدنى مستوياتها في خمس سنوات. بموازاة ذلك، أدت سياسات الابتعاد عن إنتاج الفحم وإيقاف محطات الطاقة النووية في بعض البلدان، إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي. فيما عملت التقلبات المناخية المتطرفة على خفض الحصيلة الإنتاجية لمصادر الطاقة البديلة، مثل طاقة الرياح، والطاقة الكهرومائية. في كاليفورنيا، على سبيل المثال، أدى الجفاف طويل الأمد إلى تقييد قدرة الولاية على توليد الكهرباء من الطاقة الكهرومائية. كما تكفل الدخان الناجم عن حرائق الغابات بتخفيض استفادة قطاع الطاقة الشمسية من ساعات سطوع الشمس اليومية.
وكان لابد أن يؤدي ارتفاع تكلفة الغاز الطبيعي وأسعار المعادن والمواد الخام، إلى زيادة الضغط على أسعار مجموعة متنوعة من المنتجات الأخرى. وهو ما انعكس ارتفاعاً في تكلفة إنتاج ونقل وتخزين المنتجات الغذائية، ما أسهم في استنزاف إضافي آخر لميزانيات الأسر ذات الدخل المنخفض. وقد شملت آثار ارتفاع هذه الأكلاف جميع أنواع السلع والمنتجات الاستهلاكية، من السلع الزراعية الأساسية إلى الملابس وأثاث المنازل والسيارات المستعملة. إنه التضخم الذي يُطبق الآن على كافة بلدان العالم، باعتباره إحدى نتائج «إعصار» كورونا. وكما سبق وذكرنا، فإن التضخم ليس مؤقتاً، كما قال المسؤولون الأمريكيون لطمأنة الأسواق قبل الناس، وإنما هو قادم بقوة بدأت تستشعره بقاع العالم المختلفة، على وقع سياسة الصرف من دون رصيد، الصفرية الفوائد.
* كاتب بحريني