اليد الخفية ومصنع الدبابيس

21:45 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبدالعظيم محمود حنفي*

اسأل أحد الاقتصاديين عن موضوع كتاب «ثروة الأمم». (صدر عام 1776 وهي السنة نفسها التي أعلن فيها الأمريكيون استقلالهم). وغالباً ما ستكون إجابته المنافسة. وإذا قمت بالتحقيق بدرجة أكبر، ستجد أن نشر هذا الكتاب أدى إلى اكتشاف اليد الخفية – وهي أعظم الطرق التي تعتمد على التنظيم الذاتي والترابط بين الأسعار والكميات، وهو ما نعرفه اليوم بنظام الأسعار. ولكن هناك رؤية أكثر عمقاً احتوى عليها كتاب «ثروة الأمم». وهي العلاقة بين التخصص والحجم. ألّف آدم سميث كتاب الثروة بقصد تفسير صعود إنجلترا إلى مركزها العالمي وسعى إلى تحديد السياسات التي تؤدى إلى نشر الرخاء بدلاً من عرقلته.
وقد كتب سميث في أول عبارة من الكتاب: «إن أعظم تحسين في القوى الإنتاجية للعمال، وأعظم جزء من المهارة، والبراعة وحسن التمييز والحكم على الأشياء التي يتم تطبيقها أو توجيهها، يبدو أنها نتجت جميعها عن آثار تقسيم العمل. أصبح تقسيم العمل موجوداً في كل مكان في إنجلترا، ولكنه لم يكن بدرجة الوضوح نفسها في كل مكان. ففي المنشآت الكبرى كان المشاركون في المنتج النهائي موزعين ومنتشرين في شتى أنحاء العالم. ولذلك بدأ سميث كتابه بأحد أشهر التفسيرات وضوحاً في التاريخ: «زيارة إلى مصنع دبابيس حديث. هناك يمكن رؤية العملية بأكملها تحت سقف واحد كما يمكن تحديد حساباتها. حيث أن العامل الذي يعمل في مصنع الدبابيس والذي لم يحصل على أي قدر من التدريب في مجال العمل في صناعة الدبابيس. والذي لم يحصل على أي خبرات خاصة بالتعامل مع آليات هذه الصناعة، سيكون محظوظاً إذا استطاع أن ينتج دبوساً واحداً في اليوم».
والشيء المهم فيما يتعلق بصناعة الدبابيس هي ًنها صناعة تتطلب وجود حوالي ثماني عشرة عملية مختلفة، يتم إجراؤها في بعض المصانع بالاستعانة بأفراد مختلفين، في حين أنه في مصانع أخرى قد يقوم الفرد نفسه بأداء مهمتين أو ثلاث من تلك المهام. وخشية أن يمتلأ العالم بسرعة بالدبابيس قام سميث بتقديم اقتراح جديد متعلق بالآليات التي من خلالها يمكن السيطرة على عملية تقسيم العمل وهي الاستعداد للبيع والشراء، وهو يقول إن الرغبة في تحسين الأوضاع رغبة عامة، فهي «حاجة تبدأ معنا في أرحام أمهاتنا ولا تتركنا حتى نذهب إلى القبور» فهذه المصلحة الذاتية «الميل نحو المقايضة، والتبادل هي القوة التي تؤدى إلى استمرار النظام. ويقول إن تقسيم العمل محدود بحجم السوق وهو ما يعني أن درجة التخصص التي يمكن الوصول إليها تعتمد على قدر إنتاجك الذي ستتمكن من بيعه، وعلى حجم منشأتك، وذلك لأنه يجب عليك أن تغطي التكاليف الثابتة، ومن ثم يتبقى لك القليل. وبالنسبة للحجم -أو مدى اتساع السوق – يرتبط بشكل أساسي بتكاليف النقل ومن ثم فإن التخصص يرتبط بالعوامل الجغرافية.
ويؤكد سميث أن المنافسة هي العامل الذي يؤدى إلى استمرار النظام في العمل. والشيء الضروري الذي سيجعل الأمور تسير بسلاسة هو أن تتوفر الحرية للجميع في الدخول إلى، أو الخروج من السوق. أو تغيير مجال تجارته كما يريد. تلك هي الحرية الكاملة، كما يقول سميث، فالمصلحة الذاتية الذكية ستتولى باقي الأمر. وعلاقة المنافسة بين المتنافسين، الذين يسعون إلى إخراج منافسيهم خارج السوق، تلزم كل فرد أن يسعى لتنفيذ عمله بدرجة عالية من الدقة، حيث سيسعى الأفراد إلى بيع كل ما يقدرون على بيعه بأعلى سعر يمكن أن يتحمله السوق، وسيسعون للشراء بأقل سعر، وبشكل أو آخر سيحدث التوازن على مدار الوقت». وهنا تتضح أولى اللمحات لما يمكن أن يعني «التفكير كاقتصادي»: كي ترى العالم على أنه نظام كبير من الاعتماد المتبادل ومن الأسواق المنظمة لنفسها التي تعمل الأسعار فيها وفقا لآلية تغذية استرجاعية تلقائية تعمل على تنسيق عملية توزيع الموارد – الأرض والعمل ورأس المال – بين الاستخدامات المتنافسة.
ويرى بعض النقاد أن النظريتين الأساسيتين لآدم سميث قد اتجهتا إلى طريقين مختلفين ومتناقضين في نهاية الأمر، فمصنع الدبابيس يتعلق بتناقص التكلفة وزيادة العائد، في حين أن نظرية اليد الخفية تدور حول ارتفاع التكلفة وتناقص العائد. أي من المبدأين هو الأهم؟.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"