الوطن المحدّق في وجه الموت

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

هناك شعور عارم بالمساواة بين الأفرقاء في لبنان. وعندما تلوح المساواة بين الأفراد والجماعات، وحتّى بين الدول، تقوى مشاعر التنافر والتغاير، وتتراكم الأحقاد عبر اللمح والخطب المشحونة بالكراهية، والخروج من المقولة التاريخية «لا غالب ولا مغلوب» إلى رغبة السلطة والسيطرة، ومشقّة العبور إلى الغلبة. وغالباً ما يورث هذا الشعور تبادل التحقير والقهر والإيذاء، وحتّى الحروب، بقصد القتل والإلغاء، خصوصاً عندما لا يلمس أحد المتساوين فضائل العدالة والإنصاف في تساويهما.

هذه المقدّمة فرضتها تداعيات الأحداث الدموية الخطيرة التي أرعبت اللبنانيين بين حيّي الطيونة وعين الرمانة، لتُعيدهم إلى بدايات حرب ال1975 الأهليّة التي انتهت مع اتّفاق الطائف في ال1991.

ولا يمكن نسيان ال1991 المدموغ ب3 غرائب:

1- تعيين نواب برلمان ال1972 الباقين يومها على قيد الحياة بعد عودتهم من الطائف، نوّاباً ملأوا المقاعد الشاغرة من دون انتخابات برلمانية في البلد المتشاوف إلى نظامه الديمقراطي. لقد اتّسمت تصريحاتهم يومذاك بزهو تحقيقهم آليات الشعور بالعدالة والمساواة الانتقالية بين دستور وآخر، إلى محو مشاعر الغبن والتسلّط والحرمان المُزمنة بين الطوائف والمذاهب في حكم لبنان.

2- إصدار البرلمان الجديد قانون العفو العام في لبنان (رقم 84/91 تاريخ 26/8/1991) عن كلّ الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية، معفياً أمراء الميليشيات الذين هم أنفسهم تسلموا مقاليد ​السلطة​ في لبنان، وعاثوا فساداً ونهباً بالدولة ليطلق الرئيس الياس الهراوي آنذاك، على الجمهورية تسمية «البقرة الحلوب». واتّخذت الدولة الجديدة العميقة بسرعة سيطرة زعماء الميليشيات الذين بدّلوا ثيابهم العسكرية بعد شطبهم للجرائم والفساد الذي أذهل اللبنانيين خلال 18 سنة، وما زال. الأمر نفسه حصل بعد الانفجار الأهلي في ربيع ال1985 إذ صدر أوّل قانون مماثل عن الجرائم المرتكبة حتّى 15/10/1958، وصدر قانون العفو الثاني عن الجرائم التي حصلت إثر حرب يونيو/ حزيران 1967 حتى قبل 1/1/1968.

3- سألت رئيس الوزراء في حكومة الطائف الأولى، بصفتي عضو مجلس إدارة تلفزيون لبنان الرسمي المكلّف بشؤون البرمجة والإنتاج، عن توجيهاته بالنسبة إلى تراتبية نشرات الأخبار، وجاءني الجواب أنّ الوزراء فئتان: الأولى مميّزة ممثّلة في الذين خرجوا من المتاريس، إذ تتقدّم أخبارهم وأنشطتهم على الفئة الثانية، أي الشخصيات التقليدية. صعقني الجواب طالباً التوضيح، فقال إنّهم سيسقطون حتماً، وسينبذهم المشاهدون بعد انخراطهم في الدولة. لم يقنعني الجواب الذي احترمناه لماماً، فصاروا هم الدولة بقضهّا وقضيضها. واستمرّت الانقسامات وفصول الفساد والمحاصصات، وفشلت محاولات الجمع عبر طاولات الحوار. ولم يتصالح اللبنانيون مع ماضيهم كمسار أساس لوعي الحاضر وبناء المستقبل. ولم تُرصد حقائق تاريخية جديرة بنقل المجتمعات المتنافرة من مجتمع أكلته الحروب والمآسي إلى أخرى مُهيّأة للسلام والتلاقي. وبقي شعور الجميع بالمساواة والاختلاف في كلّ شيء مذهبياً، حتى الخبث والكيد في تسمية الشهداء.

وتابع العالم، باهتمام وتدقيق ما حصل قرب قصر العدل والمطالبة بتنحي القاضي الناظر في ملف تفجير المرفأ الذي يبيض تفجيرات. سآخذ مثلاً وحيداً لردود أفعال سيّدات شهيرات نشرن صورهن شبه عاريات، وتعليقات تفيد بأنّ هذا هو لبنان الحقيقي الحر الديمقراطي الغربي. لن تُردم تلك الفجوات بين عادات الشعوب وثقافاتها في لبنان، لكنّ للمساواة عناصرها القوية في عصر الفضاء.

أودّ النفاذ من مظاهر التغاير المُبالغ فيها بين الفئات اللبنانية إلى المُغالاة المُزعجة في التعليقات والكلام الفارغ الذي لا يضيف شيئاً إلى هدوء المواقد والمواقع.

لماذا؟ لأن لبنان الحاضر الذي يُروّج له، بصفته المجتمع النادر في تآلف كياناته وثقافاته ودياناته وعقائده المتنوّعة، ما زال ساقطاً حتّى عبر الكلام والصور التوصيفية الشعبية القاسية والمستفزّة. خلعت الأحاديث والتقييمات المكبوتة أقنعتها وصارت تجاهر معلنة عبر الكلام العام الذي يمكن اختصاره:

«نحن وهم»، أو «نحن غيرهم وهم غيرنا»، ثمّ «أنا وهو»، أو «أنا وهي»، وهكذا تمتدّ المسافات المكدّسة بالأحداث والحروب والانقسامات والكراهية لتجعل من الوطن اللبناني الصغير سؤالاً دائماً مزعجاً: أيّ لبنان نريد؟

أيّ لبنان تريدون؟ سؤال لا جواب له.

ويبقى الوطن كأنّه حلقة ذهبية معلّقة في أنف، أو برمش عين امرأة أو رجلٍ لا يتمايزان تبعاً للموضة التي لا تُزعج، لكنّها توصف بال«المستوردة»، لأُجازف مسميّاً لبنان مجدّداً ب«الوطن المستورد» الذي أضاع جذوره بين شرق وغرب، ولو أنها فاعلة ومرغوبة وممتدة في الأرجاء. ولهذا أيضاً سيبقى المواطن خائفاً محدّقاً في وجه الموت، لا يعنيه إن واجهه بلغة البشر، أم بلغة الكائنات المفترسة، وهما متساويتان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"