عبدالعزيز جاسم الشاعر والمفكر والعطّار

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

في أحد حواراته الفكرية الشعرية قال أدونيس «منذ هوميروس حتى اليوم ما من شاعر عظيم إلا وفيه مفكّر عظيم». ويمكن القول أيضاً إن في كل شاعر عظيم فيلسوفاً عظيماً، وفي شعرية وشخصية الشاعر الإماراتي عبد العزيز جاسم مفكر وفيلسوف، وبينهما، أو إلى جوارهما يجلس اثنان: الجمالي، والكوني العالمي.
مناسبة هذه الكتابة جاءت بعد صدور الأعمال الكاملة لعبد العزيز جاسم: الجمالي، والغنائي، والملحمي، والمفكّر، وفي الوقت نفسه النقدي، والسجالي البارع في قضايا وجودية أساسها،  الشعر.
الأعمال الشعرية في هذه النسخة تضم ثلاث مجموعات: «الأم طويلة كظلال القطارات» و«افتح تابوتك وطر» و«لا لزوم لي». هذا من الناحية التاريخية لصدور هذه المجموعات وأولاها نشراً مجموعة «لا لزوم لي»، ولكن من ناحية ثقافية هناك الكثير من النصوص الشعرية لعبد العزيز جاسم لم ترد في هذه «الأعمال الكاملة»، وهي لن تكون أعمالاً كاملة طالما أن الشاعر ما زال يكتب، ويفكّر، ويتأمّل.
في هذه المناسبة يُكتَبْ عن عبد العزيز جاسم بحبر آخر له لون الفيروز من وراء شعريته المائية المتدفقة، غير أن هذه الشعرية المائية هي في الوقت نفسه حادّة، مسنّنة، قاطعة، وتلمع دائماً تحت الشمس كأنّها صفيحة من الألماس.
هذه الشعرية الألماسية تنطوي أيضاً على روح سردية تميّز بها عبد العزيز منذ مجموعته الأولى «لا لزوم لي»، لا بل تكمن في قصيدته أيضاً روح الحكاية، ولكنه لا يحكي كأي حكّاء يجعل من الكلام ومن اللغة إنشاءً وسياقاً بلاغياً أحياناً، بل يحكي بالشعر أكثر من تاريخ: تاريخ الذات، تاريخ القلب، تاريخ النسيان، تاريخ الندم، تاريخ الحب، تاريخ الذاكرة، وإلى ما لا نهاية ممّا يمكن أن يُسَمى «توثيقاً» للإنسان وللحياة في الدرجة الأقصى من عزلة الإنسان، والكثافة الرّوحية والوجودية للحياة.
هذه الكثافة الوجودية، وتلك العزلة هما الخيطان الأوّلان الدّالّان على عبد العزيز المفكر أو الفيلسوف، ولنلاحظ هنا أن الشاعر في عبد العزيز يوازن جيداً بين «الأخلاط» أو «العناصر» فيه.
الشعر كيمياء عبد العزيز، وفيه أكثر من الماء والهواء والنار والتراب وهي العناصر الأربعة اللازمة للكيميائي المهني أو المحترف، فأحياناً لا لزوم بالنسبة لعبد العزيز جاسم لهذه العناصر الأربعة المستهلكة وكأنما أحياناً اختفت من الحياة، فلا ماء ولا هواء ولا نار ولا تراب، فقط الشعر ذو الأخلاط العجيبة الكهرمانية التي يجبلها ويدعكها هذا العطّار القابع في دكان قليل الإضاءة، وقليل الأصوات أيضاً.
لا مبالغة، ولا غرابة في ما أكتب عن شاعر عجّان خلط طحين حنطته بدموعه، وصبر طويلاً على القراصنة الذين نهبوا أخشابه وحباله، وعوضاً عن كلِّ هذا النهب أصبح قطاراً شاعر قطار، وأحياناً شاعراً عرّاباً، وأحياناً عطّاراً يصلح ما أفسده الدهر، وأحياناً طائراً خارجاً من تابوت، أو، موسيقى زرقاء ملتصقة بكتف وردة.
هل تكتب عن عبد العزيز جاسم بغير هذه اللغة؟ تخون نفسك إذا لم تدرك جيداً كيف يتحوّل الشاعر إلى قطار أو عناصر أو مرايا.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"