الثقافة شريك في صناعة السياسة الخارجية

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

كثيراً ما كان لافتاً للنظر، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، تأكيد الدبلوماسيين والمختصين بالسياسة الخارجية، أن الثقافة صارت عنصراً أساسياً ومكملاً للعمل السياسي، وأن السياسة الخارجية أصبحت تحلق بجناحين، هما السياسة والثقافة.
 ومن أجل التركيز على جوهر هذه الظاهرة، فإنني فضلت الرجوع إلى منبرين بالغَي الأهمية، أتيح لي حضور جلساتهما، أولهما في الولايات المتحدة، والثاني في العاصمة البريطانية لندن، وفي الاثنين اتفق المشاركون فيهما على أن الثقافة لم تعد بمعزل عن السياسة الخارجية. وسوف أبدأ بما شهدته في الولايات المتحدة في أواخر التسعينات. كان ذلك في المؤتمر الذي عقده مركز جيمس بيكر للسياسات العامة في مدينة هيوستون، بولاية تكساس. وحضره أربعة آلاف شخص، شدّهم إلى حضوره المتحدثون الرئيسيون فيه، وهم جميع وزراء خارجية الولايات المتحدة الذين على قيد الحياة.
 وبعيداً عن الخوض في التفاصيل فإنني أنقل هنا ما جاء على ألسنة بعض وزراء الخارجية.
 *.. جيمس بيكر، تحدث عن علاقة الثقافة بالسياسة الخارجية. وأوضح أن هذه العلاقة تقوم على معرفة بالهوية المحلية أو الإقليمية للدولة الأخرى، أو قد تقوم على اللغة الواحدة.
*.. وارين كريستوفر، أشار إلى دور النظريات المعبرة عن فكر عقائدي، مثل التي تتنبأ بنهاية التاريخ، ونظرية صِدام الحضارات التي تجعل النزاعات الثقافية هي المصدر القادم للصراعات الدولية، وتلك التي تتحدث عن نهاية عصر الدولة القومية، ورفض كريستوفر دعاوى هذه النظريات، ووصفها بأن وراءها أفكاراً أيديولوجية، يراها البعض وسيلة لإشعال نيران عدم الاستقرار في العالم.
 *.. وجاء دور هنري كيسنجر ليتعرض للبعد الثقافي في السياسة الخارجية. وذكر أن لهذا البعد دوراً في إشعال النزاعات العرقية والدينية في منطقة قوس الأزمات في الشرق الأوسط. لكن كيسنجر تجاهل دور التدخلات الخارجية في إثارة هذه النزاعات، وإن كان أكد ضرورة تفهم الأمريكيين لثقافة تلك الشعوب أولاً.
 وبشكل عام، راحت كلمات المتحدثين تدور داخل حلقة محددة الأبعاد، في تركيزها على أهمية التفاعل بين الفكر الثقافي والسياسة، ورصد التحولات في الفكر والمفاهيم السائدة.
 واتفقت آراء عدد من المتحدثين على أن أمريكا امتلكت في القرن العشرين ثقافة الإنتاج والترفيه معاً، وصارت مركز الإلهام عن طريق أفلام سينما هوليوود، والراديو، والتلفزيون، والسيارة، والطائرة، والكمبيوتر، ولكن القرن الواحد والعشرين له قصة أخرى، وسوف يكون مختلفاً، وأن على الولايات المتحدة البحث عن صياغة أخرى لفلسفتها ورؤيتها للعالم.
 المنبر الثاني كان في بريطانيا، وقد حضرت جلساته الثرية أثناء المؤتمر الذي عقد في مقر المعهد الملكي للشؤون الدولية في «لندن شاتهام هاوس»، وشارك فيه أكثر من مئة متحدث من بريطانيا وأمريكا، وعدد من دول أوروبا، وتراوحت الآراء ما بين السياسة، والثقافة، والاقتصاد. وسوف أركز هنا على من تناولوا البعد الثقافي في السياسة الخارجية.
 كانت كلمات الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا ذات طبيعة خاصة، من رجل خارج الدائرة التنفيذية الرسمية للحكم في دولته، لكنه يمارس، وعلى نطاق واسع، نشاطات اجتماعية ذات صلة بالأبعاد الثقافية، والتنويرية. ومن ناحيته فقد طرح للرأي العام أفكاره عن الإبقاء على خصوصية المعمار الذي يميز شخصية العاصمة لندن على الأقل، وكانت له أفكاره عن العلاقة بين الشعوب والأديان، من خلال دوره باعتباره الراعي لمركز الدراسات الإعلامية بجامعة أوكسفورد، وغير ذلك من القضايا.
 وتحدث البروفيسور براد سيي، وهو كاتب روائي بريطاني، فقال إذا كانت هناك ثروة جيدة فهناك أيضاً ثروة سيئة، أما الجيدة فهي في حسن استخدام لغتنا، وثقافتنا، وفنوننا. ونحن نحتاج إلى ثقافة بريطانية في الداخل، تكون وسيلتنا لخلق ثقافة سياسية إنسانية في الخارج.
 وجاءت كلمة سير لورنس مارتن مدير المعهد الملكي للشؤون الدولية، الذي نظم انعقاد هذا المؤتمر، وقال إن الوقت قد حان لإعادة النظر في مصالح الأمن القومي البريطاني، والسياسة الخارجية في عصر ما بعد انتهاء الحرب الباردة. فنحن قد اكتشفنا وجود رغبة جماعية في تجميع أرصدة بريطانيا الثقافية لتكون جزءاً من الصورة العامة لعلاقاتها الخارجية، وللأداء الرسمي لماكينة السياسة الخارجية.
وفى الختام، كان ما قاله سير مارتن جاكوب رئيس المجلس البريطاني (وهو مركز للفكر السياسي)، من أن استثمار أرصدة القيم، والتعليم، والثقافة، التي تحوزها بريطانيا، إنما هو أمر متفق عليه، باعتبار أن ذلك يعد في حقيقته هو الدبلوماسية الثقافية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"