هشاشة فكرية

00:53 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

هل أنت من المؤمنين بأن الأرض كروية؟ سؤال غريب وإجابته معروفة سلفاً، فالأغلبية الكاسحة من البشر تعتقد ذلك، ولكن ماذا عن المؤتمر الدولي السنوي لمناصري نظرية الأرض مسطحة، والذي انعقدت دورته الأولى في نورث كارولينا الأمريكية عام 2017؟ ليس هذا وحسب، فإذا بحثت في شبكة الإنترنت ستعثر على جمعية الأرض المسطحة الدولية والتي تأسست عام 1956، بل ومئات من البشر الذين يؤمنون أن الأرض قرص مسطح، تطلق عليهم الموسوعة الحرة «ويكيبيديا»:«مجتمع الأرض المسطحة». ولقد اتهم البعض «يوتيوب» منذ فترة بأنه من مروجي تلك النظرية من خلال بث فيديوهات عديدة لأنصارها، أي أن المسألة لا تقتصر على شخصية هنا أو هناك تطلع علينا بين فترة وأخرى لتخبرنا أن فكرة كروية الأرض خدعة آمن بها البشر لمئات السنوات.

ولكن ماذا عن رد الفعل تجاه هذه النظرية اللاعلمية في الغرب؟ إن أقصى ما يطلقه البعض على المؤمنين بها، بأنهم مجموعة من الحمقى أو من مؤيدي نظرية المؤامرة بكل ما يحيط بها من أسرار وغموض. فالثقافة بفضائها الواسع والرحب والمتسامح سمحت لهم بالتعبير عن أفكارهم، ولم تقم بإقصائهم أو نفيهم أو تهميشهم.

هنا علينا أن نفكر قليلاً في سؤال إلى أي مدى يمكن تَمثُل الفكرة نفسها في الثقافة العربية الراهنة؟ وأعني بـ«تَمثُل» تعامل كافة الأطراف معها، بعض النقاد أو المحللين سيجدونها فرصة للتأكيد على أن العقلانية الغربية في أزمة، وأن العلم في خطر، وسيذهب فريق آخر إلى القول إن الحالة العلمية العربية مهما اعتقدنا أنها متدهورة فهي لم تصل إلى هذا الحد الحرج من التراجع، أما لو تجرأ أحدهم وفكر في الكشف عن اعتقاده بأن الأرض مسطحة فسيراجع نفسه ألف مرة قبل هذا الإعلان، والذي سيقابله الجميع، حتى من أولئك الذين لا تعنيهم المسألة، بالهجوم، بل لن يتم وصفه بأنه أحمق كما في النموذج السابق، ولكن سيشير البعض إلى نظرية مؤامرة كونية على العقل العربي، هذا فضلاً عن سخرية مريرة ونقد يشمل مكونات مجتمعاتنا كافة بداية من التربية وحتى الخطاب الثقافي مروراً بالتعليم والجامعات والبحث في الجذر التاريخي للمسألة، والنماذج كثيرة والكتب التي ترصد ظواهر شبيهة تمتلئ ببكائيات على الحالة الذهنية والمعرفية العربية، فضلاً عن التبشير بانهيار ثقافي ستعيشه مجتمعاتنا.

إن نتائج «تمثُل» هذه الفكرة في واقعنا تكشف في العمق عن هشاشة حقيقية، فأي ثقافة هذه التي يمكن أن تنهار إذا أعلنت مجموعة من البشر أن الأرض مسطحة؟ وأي بشر هؤلاء الذين يمكن أن يغسل أحدهم عقولهم بمجرد أن يردد فكرة ما؟ وأي وصاية يمارسها المثقفون العرب على البشر؟ وماذا عن ذلك البناء الفكري الضيق والذي لا يستطيع استيعاب أي فكر آخر أو التسامح مع آراء تتناقض مع مسلماته؟ وهو بناء يحتاج إلى مراجعة تشمل رؤيته لذاته وللآخر وللإنسان في الوقت نفسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"