المقالة تساوي 300 ألف جندي

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

جعلت همّي التدقيق في إعادة قراءة مواثيق الشرف الإعلامي في لبنان ويمكنني اختصاره اليوم بحفنة «زعماء» يضحكون في الشاشات وملايين من الآدميين يستحيل نعتهم. أستعيد طاولات الحوار الوطني التي لم تتجاوز التجاور الشكلي والتقاسم الفعلي. لطالما بُحّت الحناجر لالتزام الحكّام بالناس وتشريفهم بغسل الوجوه والخطب والتصريحات والبيانات والإعلام الملتهب لتوليد مناخ بشري بين الحريّة والمسؤولية. لا جواب. رؤوس يابسة...

أيُعقل أن تبقى الحرية حريّة مطلقة لا تشدّها ألفها واللام إلى الوراء؟ ليست الشاشات زجاجاً يتهشّم للجروح والأحقاد والنيران لا الأنوار؟

صُعق بقايا اللبنانيين إذ نصحت بريطانيا ( 16-11-2020) رعاياها بعدم السفر إلى لبنان؟ تأهّبوا مقوّسي الظهور والضمور في وطن يقوده الفشل. وكأنهم وقعوا في الحروب التي خبروا كوارثها وأبعادها وتسمياتها الممجوجة؟ من يُنكر هذا الواقع يخفي بخبثٍ سلاسل الكوارث المتلاحقة. إنّ متابعة المواقف المُكدّسة المتناقضة في حروب الانتخابات البرلمانية بين هؤلاء هم هم أنفسهم والهياج السياسي والإعلامي يغطي لبنان الجائع المخطوف. هكذا تندثر المسؤوليات كليّاً بين الحريات السياسية والإعلامية وسلطاتهما.

لنصرخ بأن توزيع وسائل الإعلام في ما بينهم أساساً، قوّض السلطات والمسؤوليات وخرّب لبنان. وعندما نذكر السلطة الرابعة، ننتظر من سياسيينا الفهم وارتداء أقنعة المسؤولية خجلاً أولاً، ورفع القبعات ثانياً لمطلق التسمية، إدمون بورك (1729-1797)، الكاتب والخطيب البريطاني، وقائد النضال ضدّ فرنسا نابليون. كان عدواً شرساً للثورة الفرنسية، كما لحكّام بريطانيا الفاسدين والراشين والمرتشين وصارفي النفوذ في الهند. وكان لمقالاته الصحفية في نقد السياسيين بلا إسفاف وتعجرف الوقع الهائل لدى القرّاء، ما دفعه إلى تسمية الصحافة ب«السلطة الرابعة» كصفة في كتابه الذي جمع فيه مقالاته ونشره بعنوان:«تأملات في الثورة الفرنسية».

كان نابليون يجنّ حيال أي نقد تثيره الصحافة بأكاذيب وزلاّت غير مسؤولة. أمر مرّةً جوزف فوشيه وزير البوليس الإداري في فرنسا غاضباً:«اقمع الصحفيين أكثر وعلّمهم قدسية مسؤولياتهم، واجعلهم ينشرون مقالات حقيقية، وإلاّ فإنني سأوقف الصحف كلّها... لقد انتهى زمن الثورة، ولم يبق في فرنسا سوى حزب واحد. اسمع جوزيف. لا شيء يؤلمني ويثير خوفي، أكثر مما تنشره تلك الصحف غير المسؤولة لتعيق الدولة».

وأسوق هنا ما نقله مترنيخ عن نابليون، وغدا مضرب الأمثال في سلطات الصحفيين. كان مترنيخ سفيراً للنمسا في فرنسا، وقرّبه نابليون منه حتّى كلّفه التفاوض بشأن زواجه من ماري لويز. قال له:«إنّ مقالة صحفية ملفّقة تساوي جيشاً من 300 ألف جندي. هؤلاء الجنود لا يراقبون الداخل، ولا يخيفون الخارج أفضل من دزّينتين من الصحفيين». كان نابليون يعتزّ بصحيفته Le Monitor ويعتبرها روح الحكومة، وسلطتها وقوّتها، ووسيلتها إلى الرأي العام في الداخل والخارج... إنّها أمر اليوم بالنسبة إلى سياسات الحكومة.

بالقفز إلى سلطات الشاشات اليوم، أذكّر بالكاتب الفرنسي شاتوبريان ( 1768-1848) الذي هاجر إلى أمريكا، وعاد مع قيام الثورة الفرنسية ليحظى بعطف خاص من نابليون الذي جعله سفيره في بريطانيا ثمّ وزيراً للخارجية. كلّ ذلك لم يمنعه من المعارضة القوية لحكومات ملك فرنسا شارل العاشر. جاء يحضّه في رسالته إليه على الإقرار بسلطات الصحافة:«كانت الصحافة عنصراً مجهولاً في الماضي، وسلطة فائقة أدخلت الآن في العالم. لإنّها الكلام في حلّته السريعة. إنها الكهرباء الاجتماعية، لا يمكنك تجاهل وجودها، لكن عليك أن تلقّنها المسؤولية الكاملة؟ إنّك كلّما زعمت بأنّك ملمّ بها وتفهمها، ازدادت ربّما حدّة انفجارها، وأضحت أكثر عنفاً. عليك أن تتصالح معها، كما فعلت في الماضي مع آلات البخار. يجب علينا التمرّس بها اتّقاءً لمخاطرها. هكذا تنحسر هذه السلطة شيئاً فشيئاً فتسقط وتتلاشى في الاستعمال اليومي، فتدجنها أو تعيد بناء عاداتك وقوانينك وفقاً لمبادئها التي ستحرّك البشرية وتتعبها من الآن وصاعداً».

لقد بلغ شاتوبريان الذروة، وهو يصف الصحافة المكتوبة بالكهرباء، وهو لم يكن يتصوّر بأنّه كان يؤسّس لكلام يربط فيه الصحافة المكتوبة في تطورها بالشاشة أي بنهر الكلام المتدفق أبداً، حيث تصبح الصحافة السلطة الفاجرة المطلقة التي تُدمر الممالك والديمقراطيات والأنظمة تتبعها كما السلطات التنفيذية الإجرائية أي الحكومات ورؤساء الجمهوريات والحالمين بها، كما تتبعها المجالس التمثيلية كما تتبعها السلطات القضائية ولو كانت في قرص الشمس من حيث رسوليتها. ليس أخطر من أن تتبادل الرئاسات والبرلمانات والحكومات «قذائف» الشاشات «لايت» مسؤوليات في لبنان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"