حكّام المظلّة «الديمقراطية»

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

ينسحب التفكير البشري نحو مستقبل العالم المقبل في الوقت الذي يفكّر فيه واحدنا في ما حوله، لكنّ قلقاً كبيراً ينتابنا جميعاً مع أثقال الكورونا، الجرثومة المتجدّدة المُخيفة بتناسلها الذي جعل البشرية والحكومات وطرائق الحكم والعلاقات الدولية قصيرة النظر تهتزّ مجدداً للحلم بالخروج النهائي ممّا رمتنا فيه الكورونا منذ 2019. أن تضع البرامج والمخططات لنفسك أو لغيرك أو لوطنك بهدف رؤية المستقبل سليماً بات نوعاً من المجازفات الخطيرة التي تجعلنا نرى رجال السلطات وكأنهم مصونون في زواياهم يُمارسون ألعاباً بهلوانية فوق حبال مرفوعة في الفراغ.

يتجدّد الخوف من كورونا؟ نعم بعدما خطف قوافل بشرية من الحياة، وكمّم سلوكنا البدائي وعلاقاتنا الطبيعية الفردية والدولية، وشلّ حركاتنا وعقولنا واقتصادنا.

أمسِ، كانت مفاتيح الأحاديث العفوية بين الناس مرتكزات شائعة متنوّعة من بلدٍ لآخر بين الغرب والشرق: بدلاً من المحادثات العفوية في لبنان مثلاً حول قضايا السياسات المحليّة والعربية والانتخابات والانشقاقات وضياع السياسيين على مستقبلهم والخوف من نشوب القتال مجدداً تتقدم أحاديث الخوف المتجددة من كورونا الذي يسحب بدوره ألسنة الغربيين وهمومهم ومحادثاتهم المعروفة بأحوال الطقس وتبادل الآراء في تلبد الغيوم الداكنة والعواصف وانتظار الشمس في غرب متحرك مكمّم بدوره صامتاً في القطارات ومحطّات المترو. إنّه العجز!

ثقيل هذا العالم بمسؤوليه وحكامه المتفرجين على المغادرين بالكورونا أو المنقادين بسرعة نحو طوارئ المستشفيات وكأنها القبور في لبنان وغيره. لم ولن يبقى شيء على حاله، هو الشعار الذي يمكنني رفعه فوق رأس العالم، في زمنٍ ضمرت فيه بهجات العولمة وحمّى صرف الأعمار وقتل الوقت في ثقوب التويتر والواتس أب والفيسبوك وغيرها.

يقتضي التفكير في العالم الآتي انتظار القدرة العلمية على تحديد تاريخ النصر على جرثومة تسوقنا رهائن لكنّها ربّما تترك فضائل كثيرة لن أفكّر فيها وأهمّها: الخشوع والتواضع والعودة إلى تحقير الذات المتشاوفة المتكبّرة والمتعجرفة خصوصاً الأمر الذي لم أتمكّن من رصده على وجوه حفنة من السياسيين في بلدٍ بائس مثل لبنان.

خلال انعكاسات ملامحهم وسحناتهم وخطبهم الكلامية شبه الفارغة من مضامينها والتي لا توحي بالثقة أو بأي جديد في لبنان، وربّما في العديد من الدول والحكومات العربية والإقليمية الأخرى المكابرة على التحديات إلى حدود الجنون العاصف الدرامي، يموت أو يختفي كل تواضع إنساني. أمس، كان نجيب ميقاتي رئيس الحكومة اللبنانية في جلاسكو مشاركاً زعماء العالم ورفيقاً لهم في همّ دولي كبير وتعاضد علمي وخوف أكيد على علاقة بتغيّر المناخ بعد فيضانات الأنهر الضخمة التي عرفتها أوروبا في العام الماضي.

كانوا متباعدين مكمّمين لكنهم متقاربون في إدراك المخاطر والتفكير بحلها على الأقلّ. شاهدنا جميعاً في الشاشات أو عبر الصحف كيف دار نجيب ميقاتي والتقى معظم هؤلاء الزعماء متوخياً منح اللبنانيين نافذة دولية تُسكّن بؤسهم وتسمح بتلاقي أعضاء حكومتهم حول طاولة. كان الرجل وكنّا مسكونين بهموم الكورونا وتغير المناخ وبالطغيان وعناد السياسيين المتحكّمين بشفاه اللبنانيين المكمّمة، بانتظار فكّ أسر حكومته بما يجعل اللبنانيين يتنفسون مثل الكائنات الأخرى بعدما باتت دولتهم وأحوالهم المبعثرة في الأرض وكأنّها الدولة التي تأكل لحوم شعبها.

أجازف بالقول إننا نصادف فصيلتين من الحكّام لا الدول: نباتيون ما تخلّوا عن معاطفهم البشرية، مقابل حكّام هم من فصيلة أكلة لحوم شعوبهم. يقع اللبنانيون، على الأرجح، بين أسنان النوع الثاني، بعدما منحت قوة كورونا وخوف الناس تضخيماً لبطش حكّامهم فبانوا من حديد أو فولاذ، قابعون لا يتحركون من معازلهم وقصورهم ينعمون بكهربائهم وغذائهم المستورد بطائراتهم يرفعون أعلامهم الخاصة بأحزابهم وجيوشهم الطائفية ولهم سفراؤهم وقناصلهم ومصارفهم ومدارسهم وجامعاتهم وإذاعاتهم وتلفزيوناتهم ووزاراتهم ونوابهم وإداراتهم وإداريوهم وكأنّ هؤلاء كلّهم أقزام ترعى في حقولهم وتحرسهم وتضاعف مشاعرهم السادية التي حفلت بها كتب الأنظمة الدكتاتوية. هؤلاء هم في الواقع، حكام المظلات «الديمقراطية» وقد تمزق قماشها.

أليسوا هم من فصيلةٍ انتمى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إليها أنموذجاً كان يطوي القانون الدولي أو يفتحه وكأنه كرسي يرتاح إليه فوق شاطئ أو في جنينته الخاصة، سواء في إدارته لكورونا عبر شلّ مجلس الأمن ومنظمة الصحة العالمية كلياً، أو تحت شعاري السيادة والقوة وأمريكا أولاً مورثاً الانشقاقات الخطيرة مع الصين ودول أخرى أراها تتنفس بخشية حتى بعد خروجه من البيت الأبيض؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"