حكايات رجل خمسيني

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

حكى لي الأديب الكويتي الصديق طالب الرفاعي، مرةً، أن قصة قصيرة له تعود كتابتها إلى سنوات شبابه الأولى تتحدث، فيما تتحدث، عن رجل خمسيني يجلس في مقهى، وصفه طالب، في تلك القصة، بالعجوز، حيث وردت عبارة من نوع: «في الركن يجلس عجوز خمسيني»، ولأن الحديث عن هذه القصة جرى بيننا بعد أن اجتزنا الخمسين من عمرينا، فإنه أورد الحكاية بشيء من السخرية على وصفه للرجل الخمسيني ب«العجوز»، فيما الخمسون من العمر في ثقافات شعوب أخرى هي فترة التألق والنضج والعطاء والاستمتاع بالحياة.
تذكرتُ هذه الحكاية حين وقعت اليد على كتاب للشاعر صلاح عبد الصبور اختار له عنوان: «على مشارف الخمسين»، وحين اخترت الكتاب لأقرأه حسبت، تحت تأثير عنوانه، أن عبد الصبور يتناول ما نحن عليه عشية الخمسين من أعمارنا، ولكن بعد تصفحه وجدت الكتاب مجموعة من المقالات الطويلة الجميلة، أولها فقط هو الذي يتناول الأفكار والمشاعر والهواجس والذكريات التي تنتابنا في الخمسين من العمر أو ما قبلها بقليل، أي حين نحسّ بدنونا منها، كما هو حال صلاح عبد الصبور، الذي نفهم من سياق ما قاله بهذا الخصوص، أنه كتبه قبل عام وبضعة شهور من بلوغه عقده الخامس.
استشهد عبد الصبور بأبيات للشاعر اليوناني – الإسكندراني كفافيس، الذي أحبّ الإسكندرية وتعلق بها مكاناً وذاكرة، يتحدث فيها عن عجوز، لم يقل إنه خمسيني، ويُعتقد أنه الشاعر نفسه، يجلس على المقهى، كما هو العجوز في قصة طالب الرفاعي، وحيداً محاولاً أن ينبش في ذهنه ليوقظ ذكرياته الحلوة، ولكن الإحباط ما يلبث أن يغزو روحه.
«عجوز معه جريدة/ يجلس وحيداً إلى مائدة في مقهى/ تحيط به الضجة/ ولكنه غارق في الذهول»، هكذا تقول أبيات كفافيس في القصيدة التي استوقفت صلاح عبد الصبور، الشاعر مثل كفافيس، الذي تخيّل ذلك الإغريقي المأخوذ بالإسكندرية يدير بصره «في ميدان واسع من ميادينها، لعله ميدان محطة الرمل أو محطة مصر بما فيه من مقاه متناثرة وزحام من الغادين والرائحين، الرجال والأمهات والحبالى، الفقراء والصعاليك والمتأنقين وعربات الترام والخيل».
لم يستطرد عبد الصبور، كما كنت أتمنى، في شرح المشاعر التي كانت تنتابه حين كتب ما كتب وهو يودع عقده الرابع، ويتهيأ لدخول الخمسين من عمره، وآثر أن يمتعنا بتداعيات وانطباعات أخرى من الحياة، إن أكدّت شيئاً فلن يكون سوى أن عمراً مثل هذا ليس باعثاً على الخيبة والقلق، وإنما هو شرفة مبهجة من العمر تمنحنا ميزة الإطلالة على سنوات التكوين المنقضيّة، والتطلع بأمل وحب للقادم الذي بوسعنا جعله جميلاً.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"