عادي

في البحث عن فضاء العجائب

23:18 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

بنيت العلاقة بين الإنسان العربي والأسطورة، على كثير من الخلط وسوء الفهم، ولعل من أهم تلك الأخطاء الشائعة والتي تكاد أن تكون راسخة في أذهان كثير من العرب، هي ربطها بصورة لا تنفصم عراها بالخرافة والسحر، بل والدجل، حتى كادت كل تلك المسميات أن تشير إلى معنى واحد، والحقيقة أن هناك فرقاً كبيراً، فالأسطورة ترتبط بالحكاية ومجالاتها، بينما نجد أن الخرافات لها علاقة بالاعتقاد والممارسات الخارقة للطبيعة.

إن ذلك الخلط بين الأسطورة والخرافة أحدث ارتباكاً كبيراً في الأذهان، فليس من الضروري أن تكون القصة الأسطورية مختلقة تماماً، أو تعبر عن واقع خرافي متخيل، فربما يكون لها جانب واقعي، لأن الأسطورة هي عبارة عن حكاية تقليدية تتناول القصص والمرويات التي تتعلق بالتاريخ القديم لشعب، أو مجموعة ما، وتعظّم من شأن ذلك التاريخ عبر التضخيم المستمر لدرجة توظيف الكائنات أو الأشياء غير المتخيلة والأحداث الغريبة، وكذلك هي القصص التي تشرح ظواهر طبيعية، أو اجتماعية، وتتضمن الأساطير عادة كائنات، أو مشاهد خارقة للطبيعة، ومن ضمن تعريفاتها كذلك أنها نسيج من الروايات المرتبطة بأصل الكون، في ثقافة أو منطقة معينة، وهي بذلك ترتبط ببعض الطقوس، وأحياناً تأتي كانعكاس للنظام الاجتماعي، أو تعبّر عن قيم لدى مجموعة ثقافية معينة، وغالباً ما تنطوي الروايات الأسطورية على شخصياتٍ بطولية، وما يميز تلك المرويات والحكايات أنها بلا مؤلف معين، إذ إنها نتاج خيال جمعي؛ أي هي ظاهرة جمعية تعبّر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها، ولكونها مقنعة، أو هي السبيل الوحيد للإجابة عن معظم الأسئلة الكونية، نجد أن الإنسان القديم قد سلّم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، لأنه كان بحاجة للمعرفة في ظل وجود عالم غامض، وغير مكتشف في الأزمنة الغابرة قبيل العلوم والفلسفة والأديان والكبيرة التي كانت لها سرديّاتها المختلفة.

صورة ذهنية

وهنالك خطأ آخر لا يقل أهمية عن الأول، إذ ساد بصورة كبيرة أن العالم العربي لم يعرف الأسطورة بصورة كبيرة، ولم يكن فضاء للغرائبيات، كما هو الحال في إفريقيا أو بعض مناطق آسيا وأمريكا الجنوبية، وذلك الأمر كان له مردوده النفسي السيئ في التعامل مع الحكايات والقصص الأسطورية، إذ تشكل حاجزاً نفسياً ضدها، وصورة ذهنية تحاكمها، والواقع أن العرب عرفوا الأسطورة في عصورهم السحيقة، وتولدت العشرات من الحكايات الأسطورية، برزت منها بعض القصص التي صارت تروى للأطفال مثل: «علاء الدين والمصباح السحري»، و«السندباد البحري»، والكائن الأسطوري، و«وحش النسناس»، وغيرها من الحكايات في عصور عربية مختلفة.

وبالطبع، فإن فائدة الأسطورة تتخطى كونها للمتعة، فهي تمثل نظرية في المعرفة، أو طريقة فهم الطبيعة، وتنظيم الفكر، وبالتالي فإن دراستها وفهمها والإحاطة بها وإدراجها في المناهج التعليمية، لها أهميتها وضرورتها، لكون الأسطورة باتت تدخل ضمن الكثير من الحقول المعرفية المختلفة، ولها أهمية قصوى الأمر الذي يتطلب دراستها، والحقيقة أنه كان من من الصعب دراسة الأساطير العربية القديمة بشكل علمي، لأن مصادر التاريخ قليلة وغير موضوعية، والأدب العربي القديم ضاع بسبب عدم وجود الكتابة عند العرب، ومعظم ما كتب عن تاريخ الجاهلية كان بعد الإسلام، وقد وصلتنا عن طريق النقوش والرواة أخبار متقطعة مبعثرة، وهنالك مؤلفات ظهرت بعد الإسلام اهتمت بأخبار الأساطير، مثل: «مروج الذهب» للمسعودي، وغيره من المؤلفات التي رصدت الكثير من الحكايات الغريبة والأسطورية، ولكنها بقيت للمتعة والمؤانسة، ولم تخضع للدراسة والتحليل والنقد إلا في إطار ضيّق.

الجسد الحضاري

وقد عرف العالم العربي بمختلف أماكنه وبيئاته من مناطق صحراوية وجبلية وبحرية، أو على ضفاف الأنهار، أشكالاً وأنواعاً كثيرة من الأساطير، وفيها ما هو شهير ومعروف، وهناك الأساطير التي لم يُلق عليها الضوء الكافي من أجل إبرازها وإظهارها للتعرف إليها ودراستها، مثل التي توجد في بابل واليمن وفلسطين، وكذلك ما نقله المستشرقون من تراجم نقوش الحضارات العربية القديمة، مثل الحميرية والسبئية والنبطية، وتكمن أهمية تناول الأسطورة باعتبارها ضرباً من الاكتشاف في التاريخ والسير والمعتقدات والواقع الاجتماعي الذي ساد في زمن ما، وما كان عليه من عادات وتقاليد، ولأن البحث في أساطير الأولين هو بحث في التفكير، فهو يدلنا على كيف أن الإنسان كان يفكر في نفسه والأشياء من حوله والوجود والمعتقدات السائدة، وذلك الأمر لا نجد له أثر كبير في العالم العربي، بعكس الثقافات والحضارات الأخرى خاصة الغرب، الذي ذهب مذهباً بعيداً، وبلغ غايات قصوى في دراسة الأسطورة، فقد تطور الأمر لديه وصار فلسفة علمية، لذلك فإن إقبال العرب على دراسة الأسطورة مهمة ملحة.

مناهج

والواقع أن الأسطورة، أو «الميثولوجيا»، كعلم، ظهر في فترة متأخرة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وانتعش في القرن العشرين وأصبح جزءاً من فهم ظواهر ومعتقدات يرثها الإنسان من أسلافه، ونستطيع القول إن حقول الدراسات الأسطورية في العالم العربي لم تكن خلواً تماماً من الإسهامات الدراسية والبحثية، ولكنها جاءت متأخرة وليست موازية، أو معادلة لحجم الأساطير العربية في الأزمنة السحيقة؛ بمعنى أن التاريخ السحيق لم يشبع بحثاً بصورة كافية، وإن كان برزت الكثير من أسماء الكتاب والبحاثة والمؤلفين، مثل فراس السواح، الذي قام بتأليف الكثير من الكتب في هذا المجال، وهنالك عصام الحوراني، وعدد من المؤلفين، وقد اتجه معظم الباحثين نحو تبنّي المنهج «الأنثروبولوجي»، الذي يدرس الأساطير والرموز الخيالية، ويكشف كيفية انتقال الترسبات الإنسانية الأولى وراثياً عن طريق الأجداد والآباء.

ولعل أكثر الأشياء والدوافع التي جعلت العرب يهتمون نوعاً ما، بالأسطورة هو الأدب، حيث اهتم منذ عصور قديمة بالحكايات الغرائبية والكائنات العجيبة، وقد تناول الشعراء في العصر الجاهلي جوانب منها، وصاغوها شعراً؛ حيث كانت القصائد في ذلك العصر محتشدة ببقايا الأساطير، أو ربما تظهر في شكل ظلال خفيفة، أو رموز في بعض النصوص الشعرية في ذلك الزمن، لكونها كانت منتشرة بين مجتمعات القبائل العربية، وقد جاءت تلك الأساطير متشكلة من العديد من العناصر، فهناك المعتقدات القديمة، والرموز الحضارية، والحكايات عن كائنات خفية وخارقة، وقد برزت تجليات تلك الأساطير في صورة ممارسات أو عادات قديمة، ونسجوا أشعاراً حول بعض النباتات والحيوانات؛ بل وكذلك بعض الجمادات، وظنوا أن روحاً ما غريبة تسكنها؛ لذلك لطالما جاء ذكر كثير من الوقائع والحيوانات والأماكن التي ترمز إلى قصة أسطورية أو خرافية في الشعر الجاهلي، وكثر الحديث عن المخلوقات الغريبة مثل العنقاء والغيلان، لكن تلك النصوص والملاحم العربية خلت من ذكر أبطال أسطوريين، على عكس ما حفلت به النصوص الغربية؛ بل ظلت الأسطورة محصورة في الحكايات والرموز والتقاليد والطقوس.

رموز وإشارات

ولعل أكثر ما يثبت أثر الأسطورة في الحياة العربية، أنها لم تختف تماماً من الأدب والشعر في العصر الإسلامي، وما بعده، فقد تم توظيف الرمزية الأسطورية في النصوص التي سادت في تلك العصور؛ حيث عمل الشعراء على الاستفادة من رمزيّة ما تبقى من الأساطير القديمة، ومن ثم إدخالها في المتن الشعري في حالات التشبيه، أو كأسلوب من أساليب المبالغة والغلّو في القول، وقد وردت في تلك الأشعار الكثير من ذكر الكائنات الغريبة، مثل الغول، والسُعلاة، والهامة، والرخ، والعنقاء، كما تم توظيف العديد من الحكايات القديمة.

وكذلك فعل الشعر والسرد العربي الحديث في العصر الراهن، وبصورة خاصة مع ظهور التجريب، فعمل الشعراء على تمثل الأسطورة في نصوصهم الشعرية، وكذلك قام الروائيون والمبدعون في مجالات القصة القصيرة، بكتابة نصوص تقوم على الحكايات الأسطورية، أو تستلهمها، وظهرت الأسطورة كذلك من خلال «التجلي»، والذي يُقصد به الإشارات الأسطورية التي ترد في نص شعري معيّن، وأيضاً عبر «الإسقاط»، أو الاستفادة من قصة أسطورية قديمة لأجل محاكمة الراهن الاجتماعي والثقافي.

والآن، هنالك مئات النصوص الإبداعية في الشعر والسرد التي تستلهم الأساطير، وقد وجدت قبولاً كبيراً من قبل القراء، لأن مجال الأسطورة هو فضاء العجائب والغرائب، وهي عوالم يحبها البشر، ولأن التاريخ العربي يحتشد بالأساطير، بالتالي، فإن ذلك الأمر تترتب عليه ضرورة بذل جهود أكبر في ذلك المجال الذي تزداد أهميته يوماً بعد يوم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"