عادي
معجم ريموند وليامز الثقافي والمجتمعي

«الكلمات المفاتيح»..اللغة سفينة فضاء ترحل بالمعنى

23:20 مساء
قراءة 3 دقائق
3301

القاهرة: "الخليج"

ليس لريموند وليامز حضور في الثقافة العربية، يوازي أو حتى يقترب من الأسماء التي لمعت مثل بارت او فوكو أو ديريدا في فرنسا، وإلى حد أقل بول دي مان وستانلي فش في أمريكا، ولم يترجم له إلا كتابان من كتبه التي فاقت العشرين كتاباً، أحدهما «طرائق الحداثة» وهو تجميع لمقالات ونشر بعد وفاته، والكتاب الآخر «الدراما من إبسن إلى بريخت» برغم أنه أحد أهم النقاد الإنجليز المعاصرين وأستاذ الدراما بجامعة كمبردج حتى تقاعده في عام 1983.

دور وليامز كان حاسماً في مجالات مختلفة من الكتابة والتنظير، إلى جانب العمل السياسي وتجاوز الحدود الضيقة لبعض المعارف، إذ إنه من أهم مؤسسي ما يعرف حالياً بالدراسات الثقافية، التي لها صلات بالحركات الفكرية، التي اكتسحت أوروبا وأمريكا، من بنيوية وتفكيكية وسيميائية ونسوية ودراسات المهمشين والثقافة الشعبية والإعلام والإيكولوجيا.

كذلك كان لوليامز دور سياسي واجتماعي أساسي في صياغة بيانات سياسية وفي إصدار مجلة «اليسار الجديد»، أما في مجالات المعرفة فقد شملت اهتماماته بالإضافة إلى الأدب والمسرح وعلوم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة والتاريخ، إذ ليس بالمستغرب أن يرتبط اسمه حسب الاهتمام بكل من هوجارت وإريك هوبسباوم، وفي مرحلة لاحقة إدوارد سعيد كزملاء ورفاق، كما يرتبط بآخرين.

حظيت اللغة في الدراسات الحديثة باهتمام كبير، وما مقولة فتجنشتاين بأن «حدود اللغة هي حدود العالم» إلا تبيان لمدى أهمية وليامز، الذي كان له اهتمام خاص بدور اللغة في الثقافة والمجتمع، إلا أنه اختلف جذرياً عن المقولة السائدة عن تدهور اللغة والشكوى الدائمة من ذلك، وإلقاء اللوم على تدهور القيم والأخلاق.

ما يفعله وليامز هو نظرة جذرية للتفاعل بين الكلمات والمجتمع والدور الفعال للكلمات، وفي مقدمته لهذا الكتاب «الكلمات المفاتيح.. معجم ثقافي ومجتمعي»- الذي ترجمه إلى العربية نعيمان عثمان- يذكر وليامز بداية اهتمامه بذلك، ويفند دور كلمات معينة تستعمل في النقاش العام، لكنها قد تحجب أكثر مما توضح وجهات النظر، ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، متجاوزاً مقولات مثل شكوى أورويل من انحدار أو انحطاط اللغة وفقدان الكلمات لمعانيها الراقية أو حتى مقالة فاتسلاف هافل عن تلوث بعض الكلمات مثل «اشتراكية» و«سلام».

قد يستولي على البعض ولع بالكلمات، ومن ثم حرص على معرفة أصولها، وقد يجدون ضالتهم في قواميس تعريف وتحديد الكلمات، وتقصي أصولها، لكن ليس هذا ما يسعى إليه وليامز، وهو أقرب إلى سوسيولوجيا علم المعاني الذي استحوذ على روبرت ميرتون ورولان بارت في قوله عن كلمات القاموس: «كل كلمة في القاموس عبارة عن سفينة فضائية، تبدو أنها مغلقة على نفسها، محكمة جيداً في سدتها، لكنها تصبح بسهولة بالغة نقطة انطلاق تهرب نحو كلمات أخرى وصور أخرى ورغبات أخرى».

كما أن القاموس يسعى إلى تقييد الكلمات فإن السوسيولوجي المهتم يسير في الطريق المخالف نحو معرفة وتقصي تلك الجهات التي تهرب إليها الكلمات وكيفية الهروب، لكن نقطة الانطلاق دائماً هي القاموس، ورغم إعجاب وليامز بقاموس أكسفورد فإنه لم يكن بالنسبة له سوى نقطة انطلاق بل حتى مجال دراسة ونقد، لدوره عبر الكلمات في إعطاء صورة معينة للواقع الفكري والاجتماعي والسياسي.

تأتي كل كلمة محملة بمعان ومضامين وتضمينات وإشارات يقوم محررو القاموس بتوكيد بعضها على حساب البقية، يضع وليامز نصب عينيه هذا، بدءا باختيار الكلمات إلى اعترافه بالمشكلات الأساسية التي تكمن في الكتابة عن أية مفردة، إلا أنه يميز بين كتابه هذا والقاموس المعتاد الذي يصعب في العادة إدخال تعديلات على مواده في مدة قصيرة، لكنه لا يتستر خلف الإكليشيهات المعتادة عن قصور المؤلف والاعتذار عن أخطاء وتحريفات محتملة، لكنه يضع في صلب المشروع أهمية النقاش والجدل في مقالاته وتعليقاته.

أحد دوافع وليامز لتأليف هذا الكتاب هو الإسهام في تحليل كلمات أساسية يستخدمها الناس في نقاشهم العام، وفي هذا المجهود التعليمي الذي يسعى إلى زيادة رأس المال الثقافي، مثله في ذلك مثل بورديو، ليكسر حاجز الخاصة، ويصل إلى الجمهور الأوسع، يهدف هذا الإشراك الواعي في النقاش إلى تغيير في المجتمع ومكوناته وتطلعاته، ولكل من نشأة وليامز وبورديو في الريف وانتقالهما جغرافياً ومهنياً إلى مراكز سياسية وفكرية، دور مهم في هذا الحماس الذي ينطبع به عملهما.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"