عادي

أوجست سترندبرج.. عبقرية مسرحية على حافة الجنون

00:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
3201

القاهرة: «الخليج»

أوجست سترندبرج (22 يناير/ كانون الثاني 1849 – 14 مايو/ أيار 1912) هو الشخصية الوحيدة في المسرح السويدي، التي لا يجرؤ أي مشتغل بالمسرح في أي بلد من بلاد العالم على أن يتجاهله، تلك هي المنزلة التي يحتلها هذا الكاتب بين كتّاب العالم، وليس بين كتّاب السويد وحدهم، وينسى الناس أنه كان إلى جانب ذلك شاعراً، وصحفياً، وناقداً اجتماعياً، وروائياً.

هذا العبقري – على حد تعبير عبد الحليم البشلاوي في صدر ترجمته لمسرحيتي «الأب» و«مس جوليا» اللتين أصدرتهما مكتبة مصر في مجلد واحد - تم وصفه بالأهوج، والأرعن، كما أنه مصاب بعقدة الاضطهاد، كلما مسه ضر أو خانه الحظ، أو فشل في مشروع صب جام غضبه على أقرب الناس إليه، وراحت أوهامه تهيئ له أنهم أعداؤه، وسبب كل ما يلقاه من فشل، كانت له نفسية معقدة، وأدى به ذلك إلى الجنون.

نشأ أوجست سترندبرج في بيت مضطرب، وكذلك كانت حياته لا تخلو من الوساوس، كان أبوه وكيلاً لإحدى شركات الملاحة، وفي معرض الحديث عنه يقول سترندبرج إنه كان «أرستقراطي المولد والتربية» وكانت لهذا الأب صلة بامرأة تقل عنه درجات في سلم المجتمع، كانت خادمة، وقبل أن يولد أوجست كانت قد أنجبت من أبيه ثلاثة أطفال آخرين.

ولد أوجست ليجد الأب، وقد أفلس، فكان حتماً عليه أن يقضي طفولته في فقر وتعاسة وشقاء، ذاق طعم الحرمان والجوع منذ الصغر، وإذا عرفنا أن أمه أنجبت لأبيه 12 طفلاً، أدركنا كيف كانت تعيش العائلة في فقر مدقع، وكان أوجست يحب أمه، ويسعى دائماً إلى كسب رضاها؛ لذا كان التنافس بينه وبين أخوته على أشده، فلما ماتت أمه وهو في ال13، تزوج أبوه من مدبرة بيته التي أنزلت بأوجست ألواناً من التحقير والمهانة.

كانت دراسته في الجامعة متقطعة فلم يتمكن من نيل إجازته الجامعية، كانت روح التمرد قد تمكنت منه فلم يكن يخضع لأي قيد، وقد اضطره فقره إلى أن يمارس أعمالاً مختلفة ليحصل منها على النفقات الأساسية، مارس التعليم والصحافة والتمثيل، ولم يقنع بتمثيل الأدوار الصغيرة على المسرح، فألح في المطالبة بتمثيل دور رئيسي، فلما تحققت له رغبته كان نصيبه الفشل، فحاول الانتحار، وعمل بعد ذلك ملقناً، وأفادته هذه التجربة المسرحية، وأكسبته خبرة، عندما راح يكتب مسرحياته.

كتب سترندبرج أولى مسرحياته وهو في العشرين من عمره، كانت ملهاة بعنوان «هدية عيد الميلاد» ومع أنها قوبلت بالرفض، كتب بعد ذلك عدة مسرحيات ظهرت اثنتان منها على المسرح، شهد ملك السويد إحداهما فأعجب بها، ووعد بتقديم مساعدة مالية له، سرعان ما توقفت دون تفسير، فانقطع عن دراسته الجامعية وعاد إلى استوكهولم، وانكب على أعمال مختلفة منها الرسم والصحافة.

في السادسة والعشرين تزوج، لكنه كان يغار على زوجته، ومن النجاح الذي أصابته كممثلة، وظلت علاقتهما تراوح بين الشد والجذب إلى أن تم طلاقهما بعد 14 عاماً، وساءت حاله بعد هذا الطلاق فأصبح ضائعاً لا يقوى على الكتابة، وأساء إلى معظم أصدقائه فانفضوا من حوله، كان يعتقد أن هؤلاء الأصدقاء قد انقلبوا عليه، ثم زينت له أوهامه أن «العلوم» هي الميدان الحقيقي الذي برع فيه، وثار على الآراء العلمية التي كانت سائدة في عصره.

كانت تلك لوثة أصابته فقامت القلة التي بقيت له من أصدقائه بتنظيم اكتتاب عام كفل له نفقات سفره إلى برلين والإقامة بها تحت الإشراف الطبي إلى أن استعاد شيئاً من صحته العقلية والبدنية، وفي عام 1893 تزوج من كاتبة نمساوية، وبدأت تعاوده نوبات الهذيان، لكن زواجه لم يدم طويلاً، وظل يتأرجح بين القطيعة والوصل إلى أن تم طلاقهما، فراح يعيش وحيداً في باريس، وانصرف كل همه إلى البرهنة على إمكان عزل الكربون من الكبريت النقي، فلما فشل في هذا عاودته أوهامه وبرزت عقدة الاضطهاد في نفسه مرة أخرى حتى إنه كان يرتاب من أقرب أصدقائه إليه، ويخشى أن يضع له السم في الطعام.

سافر إلى السويد للعلاج، وتحسنت حاله بعض الوقت إلى أن عاودته وساوسه فأخذ يرتاب في أن الطبيب الذي يعالجه يحاول أن يسرق منه سر تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، عندئذ قطع علاجه وسافر إلى النمسا، ثم شد الرحال إلى باريس مرة أخرى حيث عزت عليه الكتابة، وراح يفكر جديا في اعتزال الحياة العامة واعتناق الكاثوليكية حتى يتسنى له أن يعتكف راهباً في أحد أديرة بلجيكا، لكن مواهبه نشطت من جديد، فعاود الكتابة للمسرح، فلما كان عيد ميلاده ال50 كانت شهرته قد طافت الآفاق.

نجاح شعبي

في عام 1910 عرضت إحدى الصحف اليومية على سترندبرج أن يكتب لها عموداً خاصاً، وسرعان ما نال هذا العمود نجاحاً شعبياً كبيراً، وفي عيد ميلاده ال63 شهد بنفسه اعتراف العالم بأدبه، فتدفقت عليه البرقيات والهدايا من أوروبا وأمريكا، وسارت المواكب تحت نوافذ بيته، والناس ينادون به أعظم كتّاب السويد، فكان ذلك ختاماً لهذه الحياة العاصفة الصاخبة، فقد مات بعد زمن يسير من هذه الاحتفالات الرائعة، مات وهو يحتضن الإنجيل على صدره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"