السينما والذاكرة المشتركة

00:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالحسين شعبان

«على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة»، ذلك ما كان يردّده الشاعر محمود درويش، وهو ما اقتبسه رئيس مركز الذاكرة المشتركة عبدالسلام بو طيّب عند افتتاح المهرجان الدولي للسينما والذاكرة المشتركة في الناظور بالمغرب، وهو المهرجان العاشر بعد انقطاع اضطراري دام سنتين، حيث تسبّب اجتياح فيروس كورونا بتغيير نمط العلاقات الاجتماعية والروابط الإنسانية التي اعتاد الناس عليها في حياتهم اليومية، سواء في العمل، أو الدراسة، أو وسائل النقل، أو الاتصال. وقد فرض هذا الواقع طرقاً جديدة وأساليب غير مطروقة للتفكير، وأوجب إعادة النظر في الكثير من المسلّمات والحتميات التي كانت أقرب إلى حقائق غير قابلة للنقاش.

والسينما بقدر ما هي فرجة ماتعة، فإنها في الوقت نفسه وسيلة للتغيير والتنوير، وهي عابرة للحدود ومتجاوزة للحواجز، ويمكن أن تكون رسالة لنشر ثقافة السلم والأمن الدوليين اللذين تعرّضا للتصدّع والانتكاس بسبب اجتياح وباء كورونا، فضلاً عن استمرار حروب دولية، ونزاعات أهليّة مسلّحة، وإرهاب دولي.

كان مهرجان السينما في الناظور استثنائياً بكلّ معنى الكلمة، لأن الفترة التي مرّت على البشرية هي الأخرى استثنائية بامتياز، خصوصاً الخوف من المجهولن ومن اللايقين العلمي الذي عانته الأمم والشعوب، وكان استثنائياً في تحدّيه للواقع في لحظة ثقافية مفعمة بالأمل والتجدّد والبقاء.

وإذا كان الاتفاق بشأن أن عالم ما بعد الوباء هو ليس عالم ما قبله، إلاّ أن المستقبل لا يزال غامضاً ومبهماً. وبالمقارنة مع النظام العالمي القديم، ففي عام 1346 وصل الطاعون أو «الموت الأسود» من الصين إلى أوروبا، ولعلّها مفارقة حين تمّ اكتشاف وباء كورونا في الصين أيضاً لينتقل إلى العالم، وانتشر الطاعون عن طريق التجارة وطريق الحرير الذي يربط الصين بالبحر المتوسّط، وكان يقضي على نصف سكّان المنطقة التي يصل إليها. ولكن نظام ما بعد الطاعون هو ليس مثل نظام ما قبله، فأوروبا التي كانت تعتمد على الزراعة في ظلّ نظام إقطاعي، تغيّرت باتجاه الصناعة بالتدرّج. فهل سيتغيّر النظام الدولي ما بعد «كورونا»؟ وكيف يمكن للعولمة أن تفعل فعلها في ظلّ نظام ما بعد «كورونا»؟، وما هو دور السينما في الذاكرة المشتركة ؟

في تقديري ثمّة مؤشرات أولية تحتاج إلى زمن لنتأكّد من تغيير بعض مظاهر النظام العولمي القائم، منها: تراجع العولمة التجارية الدولية، واستدامة العمل عن بعد، وتخفيض الضغط على وسائل النقل، يضاف إلى ذلك إفلاس ودمج العديد من الشركات في قطاعي النقل والطيران والسياحة، وارتفاع رصيد اختصاصيّ الذكاء الاصطناعي في ظلّ الطور الرابع للثورة الصناعية، فضلاً عن دور الروبوتات.

وإذا كان ذلك واقعاً أخذنا نتلمّس بعض جوانبه، فإن ثمّة لا مساواة وتصدّعاً في نظام العدالة الاجتماعية، سواء على صعيد كلّ بلد (فقراء/ أغنياء)، أو على الصعيد الدولي ( جنوب/ شمال)، أو ( الدول الصناعية/ الدول النامية)، فضلاً عن ارتفاع معدّلات البطالة، يضاف إلى ذلك تراجع معدّلات تشغيل المرأة. وحتى اليوم، ثمّة ضبابية أقرب إلى التشاؤم، وقد تتطلّب بين 20 – 30 عاماً لتجاوزها حسب (أنجوس ديتون)، ووفقاً ﻠ(فوكوياما) فإن القلق سيطر على المشهد السياسي في ما يتعلّق بمستقبل البشرية، والأمر لا يرتبط بالنظام الصحي والإداري والمالي والاقتصادي الدولي، فحسب، بل وقوف الآداب والفنون والثقافة بشكل عام، بما فيها السينما، حائرة أمام هذا التطوّر الهائل، فضلاً عن أن هذا التغيّر الدراماتيكي كشف ضعف النفس البشرية وهشاشتها.

وقد طرحت الأزمة الراهنة عدداً من الأسئلة، منها ما هو حاضر ومستقبل العلاقات بين الدول والأمم والشعوب؟ وأين دور المشترك الإنساني؟ وكيف يمكن التخلّص من تأثيرات الجائحة بحيث يكون العالم ملاذاً للسلام والتفاعل الثقافي والحفاظ على منجزات الحضارة البشرية؟

والأمر يحتاج إلى التفكير بمسؤولية أكبر في منظومة القيم المشتركة تلك التي تتعلّق بالإنسان، سواء ما له علاقة بقضايا الهجرة من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني، والاتجار بالبشر وتجارة المخدرات والسلاح وقضايا البيئة والاحتباس الحراري، فضلاً عن الإرهاب الدولي، وسبل مواجهته عالمياً، وكلّ هذه الأمور لا يمكن مجابهتها والانتصار عليها من دون تعاون دولي وعمل جماعي تكاملي يسهم فيه الجميع، من دون استثناء.

ويمكن أن تكون السينما إحدى وسائله الحيوية، خصوصاً بتعزيز الذاكرة المشتركة، وهو ما كان حاضراً من خلال مناقشات جادّة ومسؤولة، ساهم فيها مفكّرون وباحثون وفنّانون وسياسيون في إطار مائدة مستديرة على هامش مهرجان السينما الدولي بالناظور، والذي سيُستكمل في مدينة أفران بالمغرب أيضاً في مطلع العام الجديد 2022.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"