طفرات بلا حدود

00:46 صباحا
قراءة 3 دقائق

يمكن فهم الذعر العالمي حالياً من «المتحور» الجديد لفيروس «كورونا» الذي اكتشفت بدايته في بوتسوانا بجنوب القارة الإفريقية. وطبيعي أن تسارع دول العالم لوقف السفر من وإلى عدة دول إفريقية مجاورة، تحوّطاً للحد من انتشار المتحوّر الجديد. وإن كان كل ذلك لن يمنع الفيروس بطفرته الجديدة من الانتقال إلى مناطق أخرى، وقد بدأ بالفعل عزل حالات في ألمانيا وبريطانيا والنمسا وغيرها. القلق العالمي مبرّر، لكن الذعر غير مبرّر على الإطلاق لأسباب عديدة.
ولعل ذلك ما يجعل المرء يتوقع أن العودة إلى القيود الصارمة التي شهدناها العام الماضي في ذروة انتشار وباء «كورونا» ليست مطروحة، رغم لجوء بعض الدول لتشديد قيود الوقاية والحماية.
 رغم أن منظمة الصحة العالمية، وغيرها، أعربت عن أن الطفرات في المتحور الجديد تثير القلق إلا أن ما قاله كبير أطباء إنجلترا البروفيسور كريس ويتي يبدو أقرب للمنطق. فبرأي البروفيسور ويتي أن المتحور الجديد ليس أشد خطورة من متحور «دلتا» الذي أثار الذعر نهاية العام الماضي وبداية هذا العام. أما مسارعة بعض شركات الأدوية الكبرى لإعلان عزمها تطوير لقاحات جديدة، فهو أقرب لعملية «اغتنام الفرصة» تجارياً أكثر منها علمياً.
 يعرف كل من درس أساسيات علم الفيروسات (فايرولوجي) أن طبع الفيروسات استمرار التحور، فالطفرات في شريطها الوراثي الأحادي أمر عادي ولا يتوقف. ومن كل فيروس تم عزله وتحديد تركيبه من قبل البشر هناك مئات آلاف الطفرات التي حدثت فيه بمرور الوقت. ومن غير المنطقي أن يطوّر البشر لقاحاً لكل متحور من أي فيروس. أما كون هذا المتحور أشد فتكاً من ذاك، فتلك مسألة لا أعتقد أن علماء الفايرولوجي حسموها تماماً. والواقع أنها غالباً ما تكون نتيجة لا يتم التوصل إليها إلا بعد سنوات من طفرات التحور تلك، وتخلص إليها مراكز أبحاث الصحة العامة مع علماء الفيروسات.
 ربما النتيجة الإيجابية الأساسية من حالة القلق العالمي هي تذكير البشر، الذين كادوا ينسون أن هناك وباء بعد تخفيف قيود الإغلاق حول العالم، بأن وباء فيروس «كورونا» لم ينتهِ. وبالتالي من المهم اتباع معايير الصحة الوقائية التي فرضت على البشرية في العام الماضي، وهي ببساطة ممارسات صحية شخصية مهمة في كل الأحوال، كغسل الأيدي بالماء والصابون باستمرار (والصابون أكثر تأثيراً في حالة الفيروسات من المطهرات الكحولية بالمناسبة)، والحرص على التباعد الجسدي في الأماكن المغلقة، وتجنب الزحام، والحرص على البقاء في الهواء الطلق قدر الإمكان. وكلها ممارسات صحية بشكل عام، في حالة وباء أو غيره.
 هذا التذكير بأن فيروس «كورونا» لم يختفِ ليس مدعاة للانزعاج، ولا حتى ظهور متحور «أوميكرون» الأخير. فعلى الأرجح سنشهد ظهور متحورات جديدة ما دامت الطفرات في الفيروس مستمرة. ونكرر أن استمرار الطفرات طبع أصيل في الفيروسات؛ لذا نحن أمام ظهور متحورات بلا حدود بالفعل. ربما يكون منها متحور أكثر انتشاراً أو أشد في الإصابة، وربما تكون تلك المتحوّرات بداية ضعف تأثير الفيروس، حتى يصبح خطره أقل كثيراً إلى حد الانعدام تقريباً. القصد تراجع الخطر بأن يظل وباء عالمياً، لكن ما دام الفيروس موجوداً في الطبيعة فستظل هناك إصابات.
 هنا تأتي أهمية اللقاحات، والتي قطعت أغلب دول العالم شوطاً كبيراً ومهماً في تلقيح مواطنيها بها. تلك اللقاحات، وإن لم تمنع الإصابة لكنها تساعد الجسم البشري على مواجهة الفيروس حين الإصابة به، وتجعل خطورته الصحية على الجسم أقل. ومع تطعيم نحو ثلثي البشرية بجرعتي لقاح على الأقل، يمكن القول إن سكان الأرض بدأوا في تكوين «مناعة الجماعة» بما يحيل الفيروس من وباء خطِر إلى مجرد مرض مثل الإنفلونزا. والفيروسات المسبّبة للإنفلونزا بالمناسبة هي أيضاً من العائلة التاجية التي منها «كورونا» ومتحوراته الحالية والمستقبلية.
 ربما يظل البشر بحاجة إلى أخذ اللقاحات فيما بعد، كما يحدث منذ سنوات مع لقاح الإنفلونزا الذي نأخذه كل عام قبل فصل الشتاء. وربما تؤدي المتحورات الجديدة إلى خفوت تأثير الفيروس تماماً. لكن في كل الأحوال، يظل الالتزام بمعايير الصحة العامة الأساسية ضرورياً. بالضبط كما نفعل في موسم انتشار نزلات البرد والإنفلونزا.
 القلق العالمي من متحورات فيروس «كورونا» مفيد؛ لأنه يبقي على زخم مواجهة الوباء الذي لم ينتهِ بعد.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"