الذاكرة الجزائرية عن الاحتلال الاستيطاني الفرنسي الذي دام 132 عاماً (1830- 1962) لم تنس المآسي والمجازر والإبادة والتهجير التي ارتكبت طوال هذه الحقبة، وهي ما زالت حتى الآن، تشكل جرحاً غائراً يتجدد كلما برزت أزمة في العلاقات بين البلدين.
الأزمة الأخيرة التي اندلعت بين الجزائر وفرنسا كانت على خلفية تصريحات للرئيس إيمانويل ماكرون، شكك فيها في وجود «أمة جزائرية» قبل الاستعمار الفرنسي، واتهم النظام «السياسي العسكري» بتكريس سياسة «ريع الذاكرة» بشأن حرب الاستقلال التي فقدت فيها الجزائر نحو مليون ونصف المليون ضحية، ما تسبب برد فعل عنيف من الجزائر التي استدعت سفيرها في باريس احتجاجاً، ومنع الطائرات العسكرية الفرنسية من استخدام الأجواء الجزائرية، واعتبار هذه التصريحات «تمس الشهداء الجزائريين الذين ناضلوا من أجل الاستقلال».
وظلت الأزمة تتفاعل، وبدا أنها دخلت مرحلة من الانسداد السياسي، إلى أن أقدم الرئيس الفرنسي على حضور مراسيم ذكرى 17 أكتوبر/تشرين الأول 1962 التي قتلت فيها الشرطة الفرنسية عشرات المتظاهرين الجزائريين عند جسر بيزون في العاصمة الفرنسية، واعتقلت نحو 12 ألف جزائري واختفى العشرات، حيث أقر ماكرون بالواقعة، وأكد «أن الجرائم التي ارتكبت تلك الليلة تحت سلطة موريس بابون (قائد شرطة باريس يومها) لا مبرر لها بالنسبة للجمهورية». وقال بعد أن وضع إكليلاً من الزهور في المكان، ووقف دقيقة صمت حداداً: «لقد تعرض المتظاهرون لقمع وحشي وعنيف ودام».
من جانبه دعا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في رسالة بالمناسبة، إلى معالجة ملفات الذاكرة مع فرنسا بعيداً عن «الفكر الاستعماري».
الرئيس الفرنسي أعرب بعد ذلك عن «أسفه» لهذا الجدل، وأكد «تمسكه» بتنمية العلاقات الثنائية، فيما دعا وزير خارجيته، جان إيف لودريان، إلى علاقات «وثيقة» و«شراكة طموحة» مع الجزائر، تتجاوز «جروح الذاكرة التي يمكن أن تظهر أحياناً من جديد».
من الواضح أن باريس تريد أن تطوي صفحة الخلافات مع الجزائر، وتضمد الجروح التي تسببت فيها التصريحات الأخيرة، وتهدئة الذاكرة الجزائرية التي لم تنس ما تركته الفترة الاستعمارية من جروح عميقة في الجسد الجزائري.
وقد جاءت زيارة وزير الخارجية الفرنسي المفاجئة إلى الجزائر يوم الأربعاء الماضي في هذا الإطار، حيث التقى الرئيس تبون ونظيره الجزائري رمطان لعمامرة في إطار مبادرة «لإحياء العلاقة» المتوترة بين البلدين، حسب بيان لوزارة الخارجية الفرنسية، التي قالت: «إنها زيارة عمل وتقييم ولإحياء العلاقات».
الوزير الفرنسي أكد بعد الاجتماعين، أنه نقل للرئيس تبون «رغبة باريس في العمل من أجل إذابة الجليد وسوء التفاهم الحاصل بين البلدين»، متمنياً أن يسهم الحوار في «عودة العلاقات السياسية بين البلدين مع مطلع العام الجديد بعيداً عن خلافات الماضي»، مؤكداً أهمية التعاون كشركاء في ملفات تتعلق بالأمن.
إن الزيارة بحد ذاتها، وموافقة الجزائر عليها، تؤشر إلى نية مشتركة لتجاوز هذه الأزمة، وفتح صفحة جديدة في العلاقات.