الإبداع ضرورة مصيرية

00:19 صباحا
قراءة دقيقتين

يعيش العلم في الغرب حالة ركود غير مسبوقة تمتد إلى ما يقرب من خمسة عقود؛ ذلك ما يؤكده المحلل الأمريكي روث داوثت في كتابه «المجتمع المنحط..كيف صرنا ضحايا نجاحاتنا؟». لقد اهتم الجميع بالتكنولوجيا على حساب العلوم الأخرى، فلم تنتج المختبرات أي نوع رئيسي من المضادات الحيوية منذ ثمانينات القرن الماضي؛ حيث سخرت الإمكانات كلها للتقنيات التكنولوجية، والتي لا تسلم من رؤية داوثت المتشائمة، فهذه التقنيات لم تحقق وعودها، لقد كان المجتمع الغربي في الستينات على موعد مع استعمار الفضاء مع بداية الألفية الثالثة، ولكن هذا لم يحدث.
 أما تكنولوجيا الاتصال وما يتفرع عنها من مواقع تواصل وإنترنت فائق السرعة، سمح بتفجر المعرفة بصورة لم يشهدها البشر من قبل، فيرى داوثت أننا لو خيرنا أحد البشر من الذين كانوا يعيشون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بين الحياة في ستينات القرن العشرين والاستمتاع بمنتجات العلم المختلفة آنذاك أو العيش الآن والاكتفاء بالإنترنت من دون التلفاز والتليفون والسيارة، لفضل الخيار الأول بالتأكيد. 
 ما يود داوثت قوله إن الغرب يعيش ركوداً تكنولوجياً وعلمياً واضحاً منذ خمسة عقود، وتحديداً منذ هبوط الإنسان على القمر، على الرغم من بهرجة التكنولوجيا الحالية وصوتها الزاعق. والأكثر أهمية أن الآداب والفنون والفلسفة والسينما والموسيقى في الغرب، تعيد استهلاك نفسها بصورة تكرارية خلال النصف قرن الماضي.
 في العالم العربي لا يمكننا أن نتحدث عن ركود علمي أو تكنولوجي بوصفنا مستهلكين لما ينتجه المركز الغربي من العلوم والتكنولوجيا، ولكن بإمكاننا التوقف قليلاً مع فكرة التكرار التي يرى داوثت أنها مؤشر على تراجع الحضارة، لأنها ببساطة نقيض الإبداع وقود التقدم إلى المستقبل. 
 نحن في الرؤية التاريخية نؤمن حتى النخاع بالتكرار، وأن الحوادث تستنسخ بعضها، هذا إذا كنا نطالع كتاباً لأحد المتفائلين، وهناك فكرة تهيمن علينا ولا أدري مصدرها، وهي أننا ندرس التاريخ لتجنب أخطاء الماضي حتى لا نكررها في الحاضر والمستقبل، أي أننا لا ندرس التاريخ لمعرفة قوانينه، وإنما نقبل عليه ولدينا ولع بالعثور على الأخطاء، وفارق كبير بين الحالتين، فالتورط في التاريخ من أجل التقاط الخطأ، سيجعلنا نكرره حتى لو تجنبنا ذلك، أما معرفة قوانين التاريخ ففضاء آخر تماماً، فضاء يعرفنا بجذورنا وعوامل قوتنا وضعفنا، ويمكّننا من معرفة موقعنا في الحاضر. أما إذا فتحنا كتاباً آخر اتسم بحس نقدي أو تشاؤمي، فسنجد أن الماضي دائماً أفضل من الحاضر، وأن التاريخ يسير من سيئ إلى أسوأ.
 هذه كانت رؤيتنا للتاريخ التي انتجها أبرز مفكرينا خلال العقود الخمسة الماضية، وهي رؤية كانت متراجعة وليست تكرارية لتعاطي جيل النهضويين العرب مع مسألة التعامل مع التاريخ من أجل التقدم، وخلال الفترة نفسها كان هناك استنساخ سيئ للفنون والآداب وتوقفا عن الإنتاج الفكري.
 إذا كان الإبداع مطلباً مُلحاً ليخرج الغرب من أزمته ويستعيد عافيته، وفق داوثت وغيره، فإنه في حالتنا ضرورة مصيرية، لكي نستأنف الحضارة من جديد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"