د. راسل قاسم
عندما كنّا صغاراً، كانت تضيق بنا الأيام، فنسألها أن تغادر على وجه السرعة، طمعاً في الوصول إلى رحلة هانئة، أو عطلة مبهجة. وسرعان ما كنّا ننتقل من حال إلى حال عند دخول حجرة السعادة تلك، فنناجي الدقائق ونعانق الساعات راجينها أن تجلس أبداً.
إن ربكة التأخير والتقديم، ومشاعر التسرّع والانتظار تملأ جعب الذاكرة، وتتدلى من سلال الطفولة، ويصدح في رأسي الآن مطلع أحد الأناشيد التي عرفناها على مقاعد الدراسة الابتدائية:
أيها النهر لا تسر وانتظرني لأتبعك
أنا أخبرت والدي أنني ذاهب معك
فانتظرني لأتبعك..
فجرى النهر مسرعاً ومضى ثم لم يعد
صرخ الطفل قائلاً بعدما المركب ابتعد
ليتني ليتني معك..
يبدو أن هذا الفصام الزمني ليس مرتبطاً ببراءة الطفولة، ولا هو حكر على أصحاب الأظافر الناعمة، بل إن البالغين مصابون به أيما إصابة. ولو أردنا، فمن اليسير علينا تشخيص هذا الفصام ببعض التمعّن في أنفسنا واستراق النظر إلى ما حولنا.
وإذا ما ركبنا أي قطار في محطة الحياة ونظرنا من النافذة، فسنرى اختلال الزمن الذي نعانيه، فلو قررنا ركوب القطار المهني ما الذي سنراه يا ترى؟
سنرى موظفين فقدوا الإحساس بالزمن في مرحلة ما، فقضوا سنوات عجافاً في وظيفة لا رجاء فيها، ولا مستقبل لها، محاولين إقناع أنفسهم أن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.
وفجأة، يصحون ليكتشفوا الحقيقة، وأنهم كانوا ساهين واهمين، فيقعوا في محنة من يحفر في الأرض من غير مِعوّل، ويسافر في الآفاق من دون خريطة.
نجول بنظرنا عبر نافذة القطار المقابلة، فنرى خريجين قد ألصقوا شهاداتهم على صدورهم وشقوا بها سوق العمل محتمين بها، ومطمئنين إليها، فلم يروا الحاجة إلى تطوير أنفسهم أو تجديد معارفهم.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى اكتشفوا أنهم في ظلمة مهنية تكاد تنشر بالمنشار، فالعالم أضحى في مكان بعيد عن مكانهم، وتكوّن لديهم يقين أن أول ما يجب عليهم القيام به ليلحقوا بالركب، أن ينتسبوا إلى دورة محو أمية مهنية في العالم الجديد.
أما إذا طلبت من الراكب فارع القامة الجالس في المقعد المجاور للنافذة أن يزيح رأسه قليلاً، فربما ستلمح موظفاً يجاهد للحاق بعمله صباحاً، ويتعجل الانعتاق منه في نهاية اليوم، يسوّف فيما يوكل إليه، فيختلق الأعذار ويستجدي الأسباب للمماطلة وكسب الوقت، وعندما تحين الآجال وتبطل الحجج، يستجدي الدقائق والثواني ويتمنى أن تقف ساعة الزمن ليلتقط ما ألقاه، ويجمع ما ذرّاه، وهو في ذلك يقدم ما يجده كيفما كان، فترى عمله فجاً ناقصاً يكاد يقع من الضعف والهزال.
إن علاقتنا بالزمن غريبة، فهي نسبية في جلّها، أحياناً نتجرأ فنتجاهله تماماً، كأن عقارب الساعة وصفحات التقويم هي قصة أسطورية في كتب الأطفال، وأحياناً أخرى ننهمك في تقسيم الثواني وتقطيعها، فنرى زمن بلانك - الذي يُعتقد أنه أقصر فترة زمنية يمكن قياسها - طويلاً وطويلاً جداً.
كيف لنا أن نأخذ بناصية الزمن؟
أتمنى ألّا تتوقع مني أن أحيلك إلى كتب ودورات وورش عمل إدارة الوقت، فأنا لا أجد لها في هذا المقال مقاماً. عوضاً عن ذلك، ربما تريد أن تترك الوقت وشأنه، أي أن تتوقف عن طيّه وفرده، وشده وزمّه كيفما شئت. فلتعامل الوقت كمقياس وليس موضوعاً قائماً بذاته تريد امتلاكه، أو هدفاً تسعى إليه، استغرق في عملك حتى تنجزه، وركّز على مهامك حتى تقضيها، وإذا اضطررت إلى المساومة فلتكن المساومة على الكم وليس الكيف. لأنك إذا سعيت للسيطرة على الوقت والتحكم فيه، سينتهي بك الأمر بأن يسيطر الوقت عليك.
قد يفيدك أيضاً أن تتقبل محدوديتك، وأن تتعامل مع تلك المحدودية بشكل إيجابي وليس كنقيصة أو شيء يجب التخلص منه، ستزيح بذلك عن ظهرك الكثير من الأحمال، كما ستصبح أكثر رشاقة وقدرة على الإنجاز.