لا جدوى من «النووي»

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

نُذكِّر أصحاب «الرؤوس الحربجية والحارة» في الإقليم الكبير «شرق الأوسطي» والعالم، بأنه لا أحد في إقليم الخليج والجزيرة العربية بخاصة، والوطن العربي بعامة، يفضل استمرار الإقامة مع الهلع، أو النوم مع القلق والتوجس والمواقف الملتبسة، أو حتى خوض اختبارات عسيرة جديدة، من الحروب والصراعات والتوتر، والانزلاق إلى مواجهات عسكرية كلفتها من الأرواح والموارد واللاجئين باهظة، وتداعياتها وخيمة.
 لقد شلّت أزمنة الصراعات والإرهاب والسياسات المتهورة أوطاناً، وشوهّت خرائط، والتهمت بشراً، وعطّلت تنمية، وخلّفت المرارات والأحقاد، ومسخت حتى «روح الشرق» المتصالح مع التنوع والتعدد والتسامح والتعاضد.
لم ينجح الإقليم، أو يُمكّن، من اجتراح لقاحات ناجعة ومستدامة لإطفاء الحرائق، وتسوية الصراعات بالتي هي أحسن (الكل رابح)، وبناء نظام للأمن الجماعي التعاوني والتنمية المشتركة، تحكمه قواعد انضباطية عالية وثقة متبادلة، بعيداً عن منطق المصالح المطلقة لطرف من الأطراف، أو سياسات الغلبة وكسر الإرادات، ومسلكيات التهور والغطرسة والأنانية والانتهازية.
ولم تكن البيئة الدولية في تلك المرحلة، نظيفة من المسلكيات والسياسات المشينة المذكورة سابقاً، فقد ضعفت فيها المعايير الضابطة للتفاعلات بين الدول، وارتفع منسوب «ثقافة الصراع» الاقتصادي والتجاري، والتيارات السياسية اليمينية المتطرفة، ومسلكيات المعايير المزدوجة، والذرائع الكاذبة لتبرير السطو، وبرزت قوى دولية صاعدة غيّرت موازين القوة التي كانت سائدة في العالم، في ظل تحولات ومتغيرات تكنولوجية ومعلوماتية جذرية ومتسارعة، وتغيرات ديموغرافية وهجرات بشرية غير مسبوقة، وأنساق «صراعية» مستجدة في الفضاء والاتصال.
يشهد العالم اليوم، حركة جريئة، من تنامي مسارات التهدئة والمصالحات، ورغبة في خفض التوتر والتصعيد في الإقليم، وتراجع حدة الاستقطاب، وإعادة الاعتبار لسياسات «حسن الجوار» كأساس للاستقرار والتعاون، وتحاشي خيارات الحسم العسكري في حل النزاعات.
من الشجاعة والحكمة في آن، الإقدام على مراجعة السياسات واستشراف الغد، في ضوء التحولات والمتغيرات في الإقليم والعالم، والسعي إلى إعادة «هندسة» النظام الإقليمي من خلال الحوار المتكافئ، وإجراءات متينة لبناء الثقة المتبادلة، وتأسيس تفاهمات تساعد في تبديد المخاوف ، وعدم كنسها تحت سجاد المجاملات والغموض، واعتماد المسؤولية والمصالح المشتركة.
والأمل هو أن تدفع هذه المبادرات والمراجعات، أصحاب النوايا الطيبة، والذين اختاروا التنمية والازدهار والاستقرار، باتجاه حوار إقليمي داخل الإقليم ومحيطه القومي والجغرافي والحضاري المشترك، لبناء سلام مستدام وتعاون وأمن جماعي، في إطار سلام (وستفالي) «شرق أوسطي» وفاقي ومتكافئ وعادل.
قد نتفاءل كثيراً، ونصل إلى توقعات طموحة، إلا أن التواضع والصبر ضروريان، وكذلك الحذر من ضغوط «لاعبين» هنا وهناك، لا يقتاتون إلا من إدامة الأزمات ،وعرقلة التفاهمات والتهدئة.
تتطلب إجراءات بناء الثقة المتبادلة والتفاعل الإيجابي، إشارات ومبادرات وخطوات متكافئة، من كل الأطراف الساعية إلى التهدئة والتعاون الإقليمي المستدام وتسوية النزاعات، بعيداً عن المصالح المطلقة، وعن التهديدات والغطرسة، وإنكار
الحقوق المقررة في القانون الدولي.
فتحت الإمارات أبواب الحوار والتفاعل في الإقليم، في السنوات الأخيرة (وفي الواقع، هو جزء من إرثها السياسي)، ونتوقع أن تكون إيران قد سمعت خلاله «أن منظومة الخليج العربية، والأخرى القومية، ومعهما الصين وروسيا، غير راغبة في أن تكون جزءاً من جهود عزل إيران سياسياً واقتصادياً، ولا تريد رؤية إيران مسلحة نووياً، وتسعى هذه المنظومة منذ خمسة عقود، إلى إعلان منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وقد تسمع إيران أيضاً، أن أهل هذه المنظومة، يتوجسون قلقاً من استمرار إيران الاعتماد على «وكلاء» لها في دول عربية، في ظل معالجات وتسويات سياسية جارية، لأزمات في سوريا والعراق واليمن ولبنان. كما نتوقع أن تكون تركيا قد أدركت أن محيطها المتشارك معها بالجوار الحضاري الواحد، والمصالح، هو الأولى بالتعاون والتصالح وتصفير الخلافات، ولعل تركيا تفهمت أيضاً هواجس دول عربية، وأدركت مدى الأكلاف الباهظة التي لحقتها (سياسياً واقتصادياً)، بفعل انخراطها في التداعيات الكارثية لما سمي ب«الربيع العربي»، ولعل الحوار والتفاعل يساعدانها على وقف سعيها إلى تعزيز وجودها العسكري في مناطق الصراعات في أراض عربية، وإنهاء رهانها على تنظيمات إسلاموية سياسية وجهادية، ثبت فشلها وتشرذمها، وألحقت الكثير من الأذى والتشويه بالأوطان والدين.
هناك توجس حقيقي، ولا يستقيم الأمن الجماعي للإقليم من غير حسمه وتأسيسه، ألا وهو «حظر الانتشار النووي» في إقليم الشرق الأوسط، وهو موضوع مضى حتى الآن نحو خمسة عقود على تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة له، واعتمدته كافة الدول العربية كإعلان دولي، وتبنّته إيران ومصر في وقتها، وتكرر ذكره في بيانات القمم العربية والخليجية، وانضمت دول العالم والدول العربية بلا استثناء، إلى معاهدة عدم الانتشار النووي الدولية، وعلى قاعدة أن أمن قلب الشرق الأوسط، لا يتحقق إلا بالتوازن بين كل أطراف المنظومة السياسية والأمنية والعسكرية في الإقليم، في حين لم توقع عليها إسرائيل والهند وباكستان.
إن فكرة إخلاء إقليم ما، من السلاح النووي، فكرة منفذة في مناطق جغرافية كثيرة: في أمريكا الجنوبية، والبحر الكاريبي وتضم 33 دولة،  وكذلك الحال بين دول جنوب المحيط الهادئ، وتضم 12 دولة، ومنطقة القارة الإفريقية وتضم 52 دولة، ومن بينها عشر دول عربية إفريقية، وهناك أيضاً منطقة جنوب شرق آسيا وتضم عشر دول، ومنطقة دول آسيا الوسطى وتضم خمس دول..
وفي إطار تلك المعاهدات الجغرافية، تخلصت أوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان، وجنوب إفريقيا (كان لديها سبع قنابل نووية) من أسلحتها النووية، كما تخلصت دول أخرى من اليورانيوم عالي التخصيب، مثل كندا والمكسيك وتشيلي. 
وقد أثبتت كل هذه المعاهدات والسياسات فاعليتها ودورها الكبير في بناء الثقة المتبادلة، وتوفير الضمانات الملزمة والمباشرة، وفي أطر تعاقدية، كما قدّم مجلس الأمن الدولي ضمانات دولية أخرى.
إن مبدأ حظر امتلاك الأسلحة النووية يمثل مطلباً أساسياً يسبق إنشاء أي نظام أمن إقليمي أو رابطة جوار إقليمي.
اليوم.. بحاجة ماسّة إلى إحياء الجهود العربية والدولية لإنجاز معاهدة ملزمة لدول الإقليم الساعية إلى الحوار والتعاون والاستقرار. إن الإقليم لا يحتمل مواجهات عسكرية تحرق الأخضر واليابس، في ظل رؤوس حامية هنا وهناك. واستمرار «الألعاب السريالية السياسية، والغطرسة المشينة» في البيئة الدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"