عصر النفايات

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

أشار فوكوياما يوماً إلى أن حقبة ما بعد نهاية التاريخ لن تعرف الفلسفة أو الفن، وفي الفترة نفسها كانت الدعوات تتلاحق معلنة نهاية الأفكار الكبرى، وموت المثقف وسقوط النخبة. كنا في العقد الأخير من القرن العشرين، ومع الألفية الجديدة تقدمنا خطوة أخرى بحديث لا ينقطع عما بعد الحداثة وبداية اختفاء الأفكار، وليس الأفكار الكبرى فقط، وفي عام 2004 جاء المفكر الإنجليزي جون سكانلان بأطروحته حول «النفايات» والتي نستطيع أن نلمح أثرها بقوة الآن. 
يعتبر سكانلان أن كل شيء في العالم قابل للتحلل، وكل شيء قابل لإعادة التدوير، إذن فكل شيء نفاية، وفق هذا المنطق البسيط يشير سكانلان لأطروحته في كتاب بعنوان «النفايات.. مدخل إلى الشك والعبث والخطأ»، والتي لا يطبقها على المادة في الطبيعة كما يبدو للوهلة الأولى، ولكن الأفكار والأخلاق والمعرفة وحتى الإنسان.. كلها مفردات قابلة أيضاً للتحلل وإعادة التدوير.
سكانلان لا يعبر عن نفسه، ولكنه يترجم أفكار تيار طويل في الثقافة الغربية يتسلل إلينا، فعندما ندخل أحد المعارض التشكيلية، حيث نجد أحدهم يحتفي بالنفايات، فعلياً، ويصنع منها فناً، أو عندما نقرأ في ما بعد الحداثة أو نشاهد إحدى المسرحيات التجريبية.. فنحن في حضرة هذا التيار الذي يشمل مختلف أوجه النشاط: السياسي والفكري والثقافي.
إن خطورة ما يطرحه هذا التيار يتمثل في أنه لا حقائق ولا ثوابت ولا ذاكرة ولا أخلاق أو قيماً مطلقة، وهو ما ترجم لاحقاً في ثورة مواقع التواصل الاجتماعي، حيث سقطت النخب التقليدية، حقيقة وليس تنظيراً، وبتنا أمام فئة تزعم أنها النخبة الجديدة، وصمتت التيارات السياسية والفكرية وسادت الكتابة السريعة التي تؤثر، واختفى الفن الجاد.
لقد بدأت السردية الغربية الحديثة بأفكار التنوير وحقوق الإنسان والتقدم، أو ما يطلق عليه البعض «الحداثة»، والتي كانت تقتصر في الحقيقة على الرجل الغربي أو الأبيض وحسب، ومن خلال ادعاء نشر هذه الأفكار بين البشر دخل الغرب مرحلة الاستعمار؛ أي كان الفكر غطاء للهيمنة على العالم، ثم شهدت الأفكار نفسها مرحلة ثانية من التحول النسبي، حيث رفُعت حزمة مقولات الديمقراطية ودولة الرفاهية ضمن الصراع السياسي والاقتصادي الملتهب مع الاتحاد السوفييتي، أعقب ذلك وقفة قصيرة للحديث حول نمط الحياة الغربية المتميز خلال عقد «صدام الحضارات»، مع كارهي المشروع الغربي. الآن نحن أمام تحوّل نوعي لهذا المشروع الفكري الطويل، ولكنه تحول يخدم الفكرة الأصل.. فكرة الهيمنة الاقتصادية المتمثلة في العولمة، فأمام تضخم ديموغرافي غير مسبوق يشهده العالم، وهو تضخم يشكل هاجساً في الكثير من التحليلات الغربية، لا محل أو تفكير في الاستعمار أو حتى خوض الحرب، ولا مجال لترويج أفكار خبرها البشر جيداً واكتشفوا بالتجربة أنها لا تخصهم، يتمثل الحل في عدة خطوات تنهي عصر الأفكار تماماً. 
المهم سيادة ثقافة الاستهلاك وأن يستمتع البشر بلحظتهم الراهنة مع أحدث منتجات العولمة بعيداً عن أي أفكار مزعجة، والتي يمكن التخلص منها في سلة «النفايات».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"