عادي

عبد الرحمن بن خلدون.. مؤرخ عصور الفوضى

23:11 مساء
قراءة 3 دقائق
3

القاهرة: الخليج

أراد ابن خلدون أن ينتج مؤلفاً تاريخياً، يتجاوز إطار البلد الذي عاش فيه، وكتب تاريخاً جامعاً، يعتبر مؤلفاً ضخماً فريداً، لا مثيل له منذ عهد أساطير الفلسفة الإغريقية، لقد شعر بقصور التاريخ، كما كانوا يتصورونه في عصره، أي التاريخ الذي كان عبارة عن تعدد الوقائع والأسماء والتواريخ، وأراد أن يسمو إلى معرفة ما يمكن أن نسميه بالقوانين التاريخية، فلم يكتفِ بأن يروي ويعدد، وإنما أراد أن يفهم ويفسر ويوضح أصول الأمم، وأن يتعرف إلى أسباب الأحداث والاختلافات والمشابهات التي قد تكون بين الأمم.

عاش ابن خلدون في نهاية العصر الوسيط أي في فترة من الانقلابات التاريخية الضخمة، التي شملت النظام السياسي والفكري معاً، ففي أوروبا كان عصر النهضة قد بدأ في البزوغ، أما بالنسبة لإفريقيا فعلى العكس وافقت هذه الفترة تراجعاً ملحوظاً، فمن ناحية كان انهيار إسبانيا الإسلامية – على حد تعبير جوستون بوتول في كتابه «ابن خلدون فلسفته الاجتماعية» – التي كانت امتداداً للإسلام في شمال إفريقيا، وكانت ممالك البربر الكبيرة في اضمحلال تام، وفهم ابن خلدون إلى حدّ ما هذا الموقف، فهو يتحدث عن عصر الاضمحلال الذي عاش فيه.

العصور المضطربة ملائمة لظهور شخصيات قوية في ميدان العمل والفكر، ويبدو أن غليان الأفكار واضطرابها يولدان عقولاً أكثر تطلعاً وأشد رغبة في العلم، وفي ظل الاضطراب وأمام تقلبات الأوضاع، تحتدّ الأطماع وترتفع إلى درجة من الشراهة، ويذكرنا ابن خلدون ببعض الشخصيات الكبرى في عصر النهضة الإيطالية، وهي شخصيات مليئة بالتناقض، فهم رجال علم وفن وحرب في وقت واحد، كان ابن خلدون مثلهم، فبدأ خلال حياته مفعماً بالمطامح الجامحة، كما أظهر في الوقت نفسه حباً ملحوظاً للدراسة والتأمل، ما أتاح له في فترة قصيرة، ووسط حياة سياسية شديدة الاضطراب أن ينتج عملاً تأليفياً ضخماً، وكان لجزء من هذا العمل – وهو المقدمة – كل سمات العبقرية.

بدأت حياة ابن خلدون العملية وسط كارثة وفي ظرف ملائم لإنضاج الفكر، وزاد من ويلات الحرب والغزو وباء اجتاح البلاد وفقد ابن خلدون بسببه أباه وأمه، ومعظم أساتذته، واستمرت حياته مضطربة أشد الاضطراب، وظل أربعة عشر عاماً يعمل كدبلوماسي ورجل دولة متنقلاً وسط تقلبات شتى؛ حيث تردد على أكثر من مكان وأكثر من حاكم، إلى أن استقر في القاهرة، وهنا يقول طه حسين: «لابد أن صورة القاهرة والحضارة المصرية التي كانت لها خصائص أية حضارة عمرانية مترفة، مع احتفاظها بالثبات، وعدم تعرضها على الدوام للانهيار، قد جعلت الفيلسوف التونسي يطيل التأمل في مدى صحة نظرياته التاريخية».

استقر المقام بابن خلدون في القاهرة، وعقد العلاقات مع علماء هذا البلد، وبعد قليل عيّن قاضياً مالكياً، لكن خصومه نجحوا في خلعه من المنصب، فذهب ليحجّ، وعند عودته تقلد من جديد منصب القضاء الأعلى الذي خلع منه، وفي أثناء ذلك ابتلي ابتلاءً عظيماً، فأسرته التي كان عليها أن تلحق به، قضت نحبها في غرق سفينة على شواطئ طرابلس، إنها حياة مليئة بالفواجع، حتى في شيخوخته استولى تيمور لنك على سوريا، وارتكب مذابح، هي الكبرى في تاريخ المذابح، وكان هذا آخر حدث بارز في حياة مؤرخنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"