ثقافة الاختلاف

00:24 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.مصطفى الفقي

نكتب اليوم عن ضرورة شيوع ثقافة الاختلاف، إذ إن هناك فارقاً كبيراً بين الاختلاف والخلاف، فالاختلاف هو تباين في الرأي أقرب إلى الحوار - صامتاً أو معلناً- منه إلى أي شيء آخر، أمّا الخلاف ففيه دلالة بروز عنصر الإرادة والشعور العميق بالحد الفاصل بين الأطراف، فالاختلاف ظاهرة طبيعية نجمت عن أنماط البشر وتنوع الإنسان، أما الخلاف فغالباً ما يكون صداماً في المصالح ومتعارضاً في الأهداف قد تتولد عنهما خصومة كبيرة تؤدي بالضرورة إلى مواجهاتٍ ليس لها حدود، وعندما نتحدث عن ثقافة الاختلاف فإننا نتذكر المقولة الرائعة للإمام الشافعي: (إن رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).

 وتوازيها في الحضارة المسيحية الغربية مقولة فولتير الشهيرة: (إنني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً للدفاع عن رأي أختلف معه)، وقديماً قالوا: (الاختلاف لا يفسد للود قضية)، فالاختلاف شعورٌ إيجابي ليس فيه نزعة سلبية أو إرادة معادية، إذ إن البشر مختلفون بمعنى التعددية والتنوع ولكنهم متساوون في لحظتي الميلاد والموت مهما كان موقعهم صعوداً أو هبوطاً فيما بينهم، فالحقوق متساوية والمراكز القانونية واحدة رغم اختلاف الأفكار والمعتقدات والأصول العرقية والمكونات البشرية، ولقد لاحظت في السنوات الأخيرة أن ثقافة الاختلاف تتراجع بشكل واضح ويحل محلها شعورٌ بالبغضاء يغذيه خطاب الكراهية الشائع في عالمنا المعاصر وحياتنا الحالية، فقد تراجع حجم السماحة واختفى إلى حدٍ كبير مفهوم قبول الآخر وتاهت تقاليد الحوار البناء وضاعت في الزحام قيم كثيرة نقلتنا من مرحلة الاختلاف إلى مرحلة الخلاف، ولنا هنا عدة ملاحظات:

أولاً: لقد أضحى جلياً أن العامل الثقافي مؤثرٌ بدرجةٍ عالية في طبيعة التعبير عن الاختلاف وإمكانية الوصول إلى أرضيةٍ مشتركة بين المتحاورين، لذلك فإن تعدد الثقافات كمّاً ونوعاً يكون له تأثيره القوي في تحديد نوعية الاختلاف والوقوف به عند مستوى معين لا يتجاوزه، كما أن الالتقاء الثقافي يؤدي هو الآخر إلى الارتفاع عن مستوى اللغة الهابطة والسمو فوق الصراعات الطارئة والتركيز بشكلٍ موضوعي على ما يمكن أن يؤدي إلى الخروج من المواجهات التي يصنعها الاختلاف.

ثانياً: لاشك في أن وجهات النظر المختلفة تختفي وراءها مصالح متضاربة ، لذلك فإن اختلاف وجهات النظر إنما هو تعبيرٌ عن تضارب المصالح والرغبة في كسب الموقف برمته لصالح وجهة نظر يفرضها طرف معين، ولا شك أيضاً في أن توازن القوى الفكرية والحجج المطروحة يلعبان دوراً كبيراً في حسم النزاع وتصفية الخلاف، لذلك فإن الارتكاز على مبادئ محددة وأهداف واضحة يعفي المختلفين من عمليات التصعيد غير المبررة والوصول أحياناً إلى لغة هابطة.

ثالثاً: لقد صاغ العالم المتحضر أساليب للحوار وآداباً للنقاش تضع حدوداً لما يمكن أن يصل إليه الاختلاف مع قدرة الوسطاء على تقريب وجهات النظر وطرح بدائل أمام الطرفين تؤدي في النهاية إلى إسقاط عدد من عناصر الاختلاف بين هذه الأطراف المتنازعة، شريطة أن يكون هناك استخدام واعٍ للغة الموضوعية والحوار البنّاء بعيداً عن المهاترات والإسقاطات وسوء تأويل الأفكار وافتراض الخطأ من الجانب الآخر وما ينجم عن ذلك من سوء في الفهم وضياع للحقيقة.

رابعاً: إن استمرار جسور المودة قائمة رغم اختلاف الرأي من أهم الصفات التي تشدني شخصياً لدى بعض الشعوب، ولقد ضربت مثلاً بالشعب السوداني الشقيق الذي يفصل تماماً بين عوامل الاختلاف وبين مظاهر المودة والعلاقات العادية التي تسمو على كل الخلافات وترتفع عن المهاترات وتبقى دائماً صافية لا يخبو نورها أبداً.

خامساً: إن التركيز على جوهر المشكلة ولب الخلاف هو تعبير عن الرغبة الشديدة لدى كل الأطراف لتجسير الفجوة ورأب الصدع ولم الشمل واجتماع الكلمة في كل وقت، وهي أمور لا تحدث إلا بتوافر حسن النية والرغبة الكاملة في مواصلة العيش مع الآخر برغم الخلافات التي لم تصل بأصحابها إلى حد الخلاف.

سادساً: إن العالم الذي يجري حولنا والكوكب الذي نعيش فيه يمضيان معاً في سياق مختلف بحكم التطور التكنولوجي الكاسح والسرعة الفائقة في نقل الأخبار وتبادل المعلومات بما يجعل الحياة ذات إيقاع مختلف ويصنع من تلك الأخبار المتطايرة مبرراً للشكوك وسبباً لسوء التأويل وهو ما يدعو أطراف النزاع وأصحاب الرأي المختلف إلى ضرورة الوعي الكامل بالمؤثرات الجديدة التي جاء بها عالم التكنولوجيا الحديثة.

سابعاً: إن ثقافة الاختلاف إذا كانت متجذرة في إحدى الهيئات الهامة أو المؤسسات المؤثرة في سياسات الدولة فإنها تعفينا بشكل مباشر من التصعيد الذي قد يصل بنا إلى ميلاد خلاف حاد بعد أن كنّا أمام اختلافٍ موضوعي، ولاشك في أن وفرة المعلومات لدى الطرفين يمكن أن تساعد على توضيح الرؤية وإزالة أسباب اللبس وتصفية المشاعر من كل ما يؤدي نحو خطاب الكراهية.

.. إنني إذ أكتب اليوم عن ثقافة الاختلاف فإنما أعيد إلى الأذهان ما رددناه عشرات المرات من قبل من ضرورة الارتقاء بلغة الاختلاف إلى مستواها الذي يسمو بها عن السقوط في مستنقع الخلاف، ولن يتحقق ذلك الأمر إلا بالعودة إلى التقاليد الأصيلة في الحضارات المختلفة التي تناولت آداب الحوار وأنماط النقاش بدءاً من المجالس النيابية الأولى في الحضارات الكبرى وصولاً إلى المؤسسات العلمية والكيانات الأكاديمية التي ترعى تلك التقاليد وتحافظ عليها، وذلك تأكيداً في النهاية لمقولة الإمام الشافعي وعبارة فولتير الشهيرة اللتين تدعمان هذا النسق من التفكير العصري.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"