كاهن المهمة النبيلة

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

ليس ديزموند توتو أسقفاً إفريقياً فقط، نسبة إلى مسقط رأسه ووطنه جنوب إفريقيا، بل هو أسقف عالمي، فبعد أن انضم إلى الكنيسة التي فيها تأثر كثيراً بالأسقف الأبيض والمعارض العنيد لنظام الفصل العنصري تريفور هادلستون، وبعد ترسيمه كاهناً في الكنيسة، عمل لفترة في كنيستين في جنوب شرق إنجلترا التي قصدها لدراسة علم اللاهوت وعلم النفس، كما أنه عمل فترة أخرى في المجلس الكنسي العالمي في بريطانيا، ليصبح بعدها أول رئيس أسود للكنيسة الانجليكانية في جوهانسبرج في عام 1975.
في بلدة صغيرة يعمل معظم سكانها في مناجم الذهب في إقليم ترانسفال في جنوب أفريقيا، وُلد ديزموند توتو في عام 1931. في بداية حياته المهنية عمل مدرساً على خطى والده، ولكن بعد إدخال نظام الفصل العنصري في المدارس هجر مهنة التعليم وتوجه نحو العمل الكنسي.
يمكن أن يوصف بأنه رفيق نيلسون مانديلا، أحد أهم قادة السياسة والنضال في القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم، رغم أن توتو لم يقدّم نفسه يوماً على أنه رجل سياسة، بل إنه حتى في معارضته الشديدة لنظام الفصل العنصري أكدّ أنه ينطلق في موقفه ذاك من بواعث دينية بالدرجة الأولى، وليس في الأمر ما يدعو إلى الغرابة، فصحيح الدين، أي دين، ينطلق من الانحياز لمبادئ العدالة والحرية والحق والمساواة بين البشر، وهي نفسها المبادئ التي كرّس مانديلا حياته من أجلها.
بدا مفهوماً جداً أن مانديلا اختار توتو بالذات ولا أحد سواه، ليرأس لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا بعد إنهاء نظام الفصل العنصري. يا لها من مهمة نبيلة وصعبة في آن، أن تداوي جراحات مجمع انقسم عرقياً طويلاً، ونالت فيه الأغلبية السوداء ما نالت من مظالم واضطهاد وتمييز، لكن دون أن يظهر المنتصر، ممثلاً في الأغلبية السوداء، في مظهر المنتقم والمتشفي ممن اضطهدوهم طويلاً، أي الأقلية البيضاء.
في ذلك قال نيلسون مانديلا قولته الشهيرة: «نغفر.. لكن لا ننسى»، ولم يكن يعني بعدم النسيان أن الجراح الموروثة لن تندمل، بقدر ما كان يؤشر إلى الدرس والعظة المستخلصين من التجربة المريرة للفصل العنصري ومن التضحيات الكبيرة التي قدّمها السود وهم يناضلون ضده، ومن أجل استعادة ما سلب منهم من حقوق في وطن هو وطنهم وعلى أرض هي أرضهم، قبل أن يأتيها الغزاة البيض ألذين سيصبحون تالياً مستوطنين.
ديزموند توتو الذي وصفته الصحافة ب «الأسقف الباسم» رحل عن الدنيا قبل يومين، من بوسعه أن ينسى محياه الذي يشع بالطيبة والتسامح، ما جعل له محبين ومعجبين لا في جنوب إفريقيا وحدها، وإنما في العالم كله.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"