عندما يصير الوطن سجيناً

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

بات رفض الدولة كمكانٍ مشترك بالنسبة إلى المستقبل عند الشعوب المفتونة ظاهرة قد تتجاوز السياحة والانجذاب بالدول الأخرى الصغرى والكبرى القريبة والبعيدة، لكنّها المتحضّرة في القناعات. سيذهب الظن مباشرة بالقارئ نحو لبنان الصغير أو الكبير؟

فليكن. تركض شعوبه وسياسيوه المتناثرون على فكرة رفض الدولة أو عدمية النظام نهائياً بسبب من غياب السلطة المنظِّمة بسلطاتٍ لا تعداد لها، لكنّ جمعها «شقع» حطب يابس قديم.

مهلاً. إنّ انعدام النظام بالمعنى السطحي قد تورثه التفجيرات، وحتّى أعمال الشغب والتحريض لتعرية تحلّل الدول. وقد تكون له أسباب مثل تغييب السلطات المنظّمة، بمعنى تقويتها وتمكينها، عبر الممارسات المتوّجة بخلافاتها والتباساتها وتعثّراتها المذهبية إلى ادعاءات كاذبة، وتحدّيات تُضاعف من انعدام النظام. وتميل ولو بالتفكير السرّي إلى قوى قسرية متعاونة لوقف سقوطها أو رحيلها عبر إشاعة الفوضى المنظّمة. لا أودّ هنا حصر الأمور فقط بلبنان أنّه نموذجه المثالي المائل أمام العالم. للتوضيح أكثر، ألتفت إلى مثل تونس الميّالة بقوة إلى رفض السلطات كليّاً، طمعاً للخروج من الفساد عقب الخراب إلى صيغة من الصواب.

تعني الفوضى بالفرنسية (Anarchie) أي اللاسلطة، وغياب مؤسسيها ورموزها، وتشابكهم وتصالحهم. ويعني الجزء الأوّل من المصطلح (An) النفي، بينما يقصد بالجزء الثاني منه (archie) السلطة. وعندما اعترف الفيلسوف الفرنسي بيار برودون (1809- 1865) أب اللاسلطوية وأوّل من نظّر لها، لم يقصد إشاعة الفوضى أو تأسيسها حيال تعقيدات العصر، بل تقويض السلطات الطاغية التي فصّلها في مؤلفه الأوّل الشهير: «ما هي الملكية؟»، قائلاً عام 1840:

«أنا فوضوي». قصد تفسيرها أوّلاً بالهمجية والتسيّب واللانظام، أو اللاقانون، وترك الأمور تجري على غاربها، تقودها الأهواء والنزوات والغرائز إذا كانت السلطات هي كذلك. لا بأس. وحتّى ولو أعادتنا نحو الحالة التي تعود بالإنسان إلى الحيوان، أو إلى الغريزة التي بنى عليها في الأساس داروين مثلاً، أو حتّى في العودة إلى النقطة الأولى للدائرية في التفكير والتغيير والتحويل، أليست الفوضى انتفاء لأيّ رباط، أو علاقة، أو تبرير، وهو ما يؤدي إلى تقديس القوة وإشاعة العنف المستتر والمتراكم الذي يولّد الخرائب والجرائم؟

صحيح أنّ «برودون» هذا كان أول من استخدم مصطلح الفوضى تعبيراً عن الحدّ الأقصى للتقدّم الإنساني السياسي، عندما تغرق الدول بالفائض من السلطات المستبدة. وعلى الرّغم من أنّ مجمل المظاهر التغييرية تجلّت في الحركات الشبابية والطلابية التي ولدت في بيركلي (1924)، وترعرعت في برلين (1926)، ووصلت باريس،(1968)، عندما رفرف العلم الطلابي الأسود مسقطاً الرئيس الفرنسي ديجول، وغطّت الشعارات الفوضوية جدران المدن الجامعية والشوارع في أوروبا كلّها، وطافت واستقرّت ربيعيّاً في دول عربية وفيها لبنان بثورته المجهضة والمستترة، لكنّ «برودون» نفسه أقرّ في كتابه «العدالة في الثورة والكنيسة» بأنّ القانون وحده كاف للحفاظ على الانتظام العام والحرّيات. وليست الفوضى غياب النظام، أو الغوغائية، أو عدم المسؤولية، بل «الحالة التي يصلها مجتمع ما يتطوّر حتى استغنائه عن أيّ نظام خارجي أو داخلي مفروض بالقوة. إنها الحالة التي تحلّ فيها الأخلاق والأوطان مكان السجون ومؤسسات القمع الأخرى.

جالساً على مقاعد بروتون، أسأل السادة في لبنان: ما معنى أن يصير الوطن سجناً؟».

يمكنني أن أرجع ولادة الفكرة إلى نباهة أرسطو (384- 322 ق.م.) بعدما تهشّمت الطاولة الخشبية الصغيرة أمامه. حملها قطعاً مخلّعة بنيّة رميها، لكنه سرعان ما عاد بها تحت إبطه تقوده فكرة بأن يجعلها رفّاً، أو إطاراً لرسم، رابطاً بذلك بين الخلق والابتكار والعدم والوجود بمعنى الحياة. هذا لا يعني أن تُصبح سياسات الحكّام والقادة مثل لعبة البازل المعروفة التي تجعل كلّ أمر قابلاً للتفكيك وإعادة التركيب السهل والسريع المزاجي وكمقياسٍ للذكاء والإبتكار. قد تكون أبسط لعبة للأطفال لكنها ترسّخ الفوضى المنظّمة ولعبة الانهيار وإعادة الإعمار.

 وغالباً ما يأتي الكلام اللبناني والعربي وغير العربي في المجال، ليوصم الأمريكي والروسي والصيني والأوروبي أسياداً ووكلاء للفوضى المنظّمة في معرض الكلام عن الشرق الأوسط العادي، أو المكبّر، أو الجديد. إنها السيطرة السهلة على الفكر بالتفكيك وإعادة التركيب التي تسهل في حالات من هذا النوع الفوضى وإمكانات فرض الأفكار والخرائط والخطط الجاهزة، باعتبار أنّ البشر أمام مشاهد العنف والبطش والجوع والضياع يصبحون أكثر طواعية وأشدّ بساطة لربطهم بسلاسل من القوانين المستوردة، ولو كان من قاع جهنّم المتكرّر فوق ألسنة البؤساء، لكنّ هذا يخفي مؤسسات من القمع الحديث عبر تجارب شديدة الخطورة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"