هل يمكننا الوثوق بمــا يحــدث للمــال؟

20:51 مساء
قراءة 4 دقائق
1

بيتر كوي *

يتخلى الناس شيئاً فشيئاً عن الأشكال القديمة للمال متبنين أنماطاً جديدة كالعملات المشفرة، هي أسرع مما يمكن لأدمغتنا القديمة وعاداتنا التقليدية معالجتها أو الإحاطة بها. واختلطت مشاعر الكثيرين، بين الشفقة والذنب، لما آلت إليه أجزاء العملات المعدنية الصغيرة كالبنسات والأرباع التي رسمت فيما مضى صورة كبيرة لطفولة كل منا، وتحولت اليوم إلى قطع أثرية غير ملائمة إلى حد ما وعفا عنها الزمن، وبات اقتناؤها أو وضعها في لفافات ورقية داخل البنوك كمن يجمع الطوابع في زمن الأجداد. فهل أصبح لزاماً علينا التأقلم مع الوضع الجديد والثقة بما يحدث من تغيرات للمال؟

لفت إسوار براساد، الاقتصادي بجامعة كورنيل، إلى أننا نمر في منعطف مثير للاهتمام، وفترة كبيرة من القلق بشأن ما يحدث للأشكال التقليدية للمال، وهل ستكون هذه التطورات التكنولوجية التي نراها من حولنا مفيدة بطريقة ما، أم ستخلق مزيداً من الاضطراب والفوضى؟

يمكنك اليوم التجول لأسابيع في معظم أنحاء أوروبا وشرق آسيا دون لمس النقود الورقية أو العملات المعدنية. ومن الأشياء الطريفة التي حدثت عام 2013، إحباط عملية سرقة بنك في السويد لأنه ببساطة لم تكن هناك أموال لسرقتها، فالبنك كان بمثابة فرع «غير نقدي».

وتسير الولايات المتحدة في الاتجاه ذاته، وإن لم يكن بنفس المستوى بعد، فقد انخفضت نسبة الأمريكيين الذين يفضلون الدفع نقداً إلى 18% في عام 2020 من 27% في عام 2016، وذلك وفقاً لمسح أجراه مجلس الاحتياطي الفيدرالي، كما سرّع وباء كورونا هذا الاتجاه أكثر.

في مقابل ذلك، اضطر مجلس مدينة نيويورك العام الماضي إلى تمرير مشروع قانون يطالب مؤسسات الطعام والبيع بالتجزئة بقبول النقود العينية أو مواجهة غرامة قدرها ألف دولار، وذلك للتأكد من الأشخاص الذين ليست بحوزتهم بطاقات ائتمان أو خصم، أو ممن يرجح أن يكونوا فقراء أو مشردين، أو كبار السن لا يزال بإمكانهم الاستمرار في التسوق السلس. وتوجد قواعد مماثلة في فيلادلفيا وسان فرانسيسكو وماساتشوستس ونيوجيرسي. ومن وجهة نظر البعض، أنها علامة سيئة عندما تضطر الحكومة إلى إجبار الناس على قبول وسائل الدفع التقليدية.

لا يعد زوال النقد التطور الوحيد الذي يثير قلق الاقتصاديين، فمعظم الأموال التي نستخدمها اليوم تصدرها البنوك وليس الحكومة. وعندما تدفع ببطاقة ائتمان أو بطاقة خصم أو تحويل أموال إلكتروني، فإن المؤسسة التي تقف وراء المعاملة هي بنك. وبالتالي، فإن الدولار الافتراضي في حسابك الجاري داخل البنك الذي تتعامل معه يختلف اختلافاً جوهرياً عن فاتورة الدولار النقدية التقليدية أو أربعة أرباع معدنية في قبضة يدك.

ستكون المرحلة التالية في تطور النقود هي ظهور الأموال غير المصرفية، بما في ذلك العملات الافتراضية المشفرة والأصول الرقمية. لكن درب هذا التطور لن يكون مفروشاً بالورود، ففي الولايات المتحدة، تعتبر بطاقات الائتمان والخصم البنكية ثقافة راسخة بعمق. وبينما تعتبر عملة «بيتكوين» وغيرها من العملات المشفرة المتقلبة شائعة بوصفها استثمارات مضاربة، إلا أنها ليست مفيدة إلى حد كبير في المعاملات اليومية، مما يجعلها أقرب إلى الأصول المالية منها إلى المال.

تقول النظرية النقدية الحديثة إن المال ليس مجرد مؤسسة اجتماعية، فقيمته تأتي من أن الحكومات الوطنية تطلبه لدفع الضرائب والرسوم. ويقر بعض الاقتصاديين بأن شرط دفع الضرائب بالمال يعطيها بعض «القيمة الحقيقية»، لكنه لا يكفي لحث أفراد المجتمع على استخدامه أكثر في تعاملاتهم اليومية مع بعضهم البعض. فالطبيعة الاجتماعية للمال هي نقطة قوة وضعف في آن واحد، والثقة التي تحافظ على المال يمكن أن تختفي في لمح البصر؛ إذ لا توجد وسيلة أكثر دقة لقلب الأساس الحالي للمجتمع من إفساد عملته.

يُظهر التاريخ أنه عندما يفقد المجتمع الثقة في أمواله تحدث أشياء سيئة. وودائع عملاء البنوك في ثلاثينات القرن الماضي أكبر مثال؛ حيث ساعد الفشل المتتالي للمصارف في تحويل الانكماش الاقتصادي الروتيني إلى كساد عظيم. ومنذ ذلك الوقت، منع التأمين الفيدرالي للودائع إلى حد كبير التهافت على البنوك، وحدثت أزمة ثقة في نظام «الظل» المصرفي، وهو ساحة واسعة تشمل صناديق أسواق المال، وصناديق التحوط، والأسهم الخاصة، ومقرضي الرهن العقاري من غير البنوك، والبنوك الاستثمارية.

تأمل ما حدث في الأزمة المالية العالمية 2008-2009، حين أصبحت الأوراق المالية المدعومة بالأصول مثل سندات الرهن العقاري شكلاً من أشكال المال، وهو ما يعادل النقد في وول ستريت. ونشر اللاعبون الكبار هذه السندات كضمان للقروض قصيرة الأجل فيما يعرف بسوق «الريبو»، اختصاراً لاتفاقية إعادة الشراء. وعندما ارتفعت حالات «حبس الرهن»، فقد الناس الثقة في قيمة سندات الرهن العقاري تلك، وقاطعها المقترضون. لدى الحكومات في جميع أنحاء العالم مصلحة واضحة في الحفاظ على ثقة الجمهور بأن أموالهم ليست سريعة الزوال تماماً. وينطبق هذا على الأموال الصادرة عن الحكومة، والتي تتكون من الأوراق النقدية والعملات المعدنية والاحتياطيات في البنك المركزي، والأموال الصادرة عن القطاع الخاص، والتي تشمل الحسابات المصرفية وإعادة الشراء والمنتجات الجديدة مثل العملات المشفرة.

بالعودة إلى الولايات المتحدة، لا توجد أزمة ثقة ملحة عندما يتعلق الأمر بالأموال التي تصدرها الحكومة. فالبلد ليس في خطر حقيقي من عجز الميزانية الجامح أو التضخم المفرط أو ما يعادل في العصر الحديث الكساد البنكي. لكن مصطلح «النقد» بات مختلفاً، ومع ذلك لن يعفو عنه الزمن، من الناحية التقنية، قبل أن تحوز البدائل ثقة الجمهور ودعم الحكومات وقبولها.

إذا سارت الأمور على ما يرام، فإن التدفق المبتكر سوف يترك لنا وسائل دفع مناسبة بشكل أفضل للأغراض الحديثة. لكن الانتقال سيكون مضطرباً، وقد نفتقد يوماً ما لتلك البنسات اللامعة.

* نيويورك تايمز

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"