ديزموند وقوس القزح

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

«الدين كالسكّين، تستطيع أن تستخدمه لقطع الخبز أو تغرزه في ظهر أحدهم»، وهو يمثّل جوهر فلسفة ديزموند توتو كبير أساقفة جنوب إفريقيا، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984، والذي اعتبر العدالة أساس الإصلاح، حيث لا ينتهي بوقف المظالم، بل يتطلّب تحقيقها، وإلّا فإن الواقع سيكون أكثر سوءاً.
وبقدر معاداته للعنصرية، إلّا أنه رفض فكرة الانتقام واعتبرها ليست حلّاً، لأن ذلك سيؤدي إلى استمرار العنف الذي سيأخذ دورة متواصلة، والانتقام لا يجلب السلام بقدر ما يولّد الكراهية، وهذه الأخيرة إذا ما سادت تُنجب كراهية مضادّة، وهكذا يستمر الحقد لينتج حقداً آخر، وحسب بوذا: إذا رددنا على الحقد بالحقد فمتى سينتهي الحقد؟ فمن دون التسامح لن يكون هناك مستقبل. لذلك دعا إلى أن يكون السود لطفاء مع البيض الذين سيحتاجون إلى «إعادة إنسانيتهم»، ويُرجع العنصرية في أحد أسبابها إلى النظام الاجتماعي، كما يتم توظيفها اليوم سياسياً في قضايا المهاجرين، التي يتم التلاعب بها وفقاً لمصالح وأهواء انتخابية وأنانية.
وكان ديزموند داعية حقيقياً للسلام، فالسلام كمبدأ إنساني ينبغي الوصول إليه مع الأعداء. ومن أقواله أن «إنسانيتي مرتبطة بك، لأنني لا يمكن أن أكون إنسانياً من دونك». ودعوته تلك لا تعني الوقوف على الحياد في حالة الظلم، وإلّا سيعني ذلك اختيار الظالم وتفضيله على المظلوم.
 العالم الذي نعيش فيه حسب ديزموند، هو عالم يمتاز بالتنوع على الرغم من الإصرار على رفض الاختلاف أحياناً، وإبعاد الشخص المختلف، ولذلك كان يردّد «ليكن قلبك أرحب من مساحات العالم... اهدم في أعماق روحك جميع الحدود الجغرافية واللغوية والدينية والاجتماعية التي شيّدتها أنانية البشر».
 وقاد ديزموند مع نيلسون مانديلا المفاوضات لإنهاء نظام الفصل العنصري بعد إطلاق سراح الأخير عام 1990 بتأكيد الديمقراطية التعدّدية للأعراق كافة، ولمختلف الانحدارات السلالية واللغوية والاجتماعية، وسعى لتشكيل حكومة للوحدة الوطنية عام 1994 برئاسة مانديلا، وترأّس فيها لجنة الحقيقة والمصالحة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان السابقة التي ارتكبتها الجماعات المؤيدة والمناهضة للفصل العنصري على حد سواء. وهو الذي سكّ مصطلح «أمّة قوس قزح» الذي يعني التنوع والتعددية.
خلال زيارتي لجنوب إفريقيا لحضور مؤتمر ديربن ضد العنصرية عام 2001، حرصت على التدقيق في بعض جوانب تجربة التحوّل الديمقراطي والعدالة الانتقالية، التي قامت على كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر بتخليد أسماء الضحايا، إضافة إلى تعويضهم أو تعويض عوائلهم وإصلاح النظام القانوني والقضائي وأجهزة إنفاذ القانون وصولاً لتحقيق المصالحة الوطنية والمجتمعية.
 وكان البعض من البيض يعتبره متطرّفاً لأنه تولّى مسؤولية المساءلة عن الارتكابات السابقة، في حين أن بعض السود يعتبرونه إصلاحياً، وغير راديكالي أو جذري، لأنه لا يميل إلى العنف والانتقام، وانتقده اليساريون لبعض مواقفه الفكرية إزاءهم، وأدرك ديزموند أن رحلة ما بعد النظام العنصري ينبغي أن تكون مختلفة عمّا قبلها، ليس لاعتبارات «الأقلية» و «الأغلبية»، كما كان سائداً، وإنما بتأكيد مبادئ المساواة والتنوّع العرقي والتعددية، وكان هو من دعا إلى ذلك منذ عام 1976 إثر أحداث سويتو التي انفجرت بالاحتجاج الشعبي للسود على إجراءات نظام بريتوريا العنصري، وأطلق حملة عالمية لمقاطعة النظام العنصري، ومنع توريد الأسلحة إليه للضغط عليه للتراجع. وحين حصل ذلك في عام 1989 رحّب بالإصلاحات التي اضطّر إليها رئيس البلاد، ويليم دي كليرك والتي شملت رفع الحظر عن المؤتمر الوطني الإفريقي وإطلاق سراح مانديلا، وفيما بعد التهيئة لإجراء انتخابات في إطار التعددية.
وكنت تابعت مواقفه حتى بعد توليه رئاسة لجنة الحقيقة والمساءلة، حيث انتقد بعض إجراءات الحكومة في عدم دفع تعويضات مناسبة للضحايا، كما انتقد إخفاقاتها في محاربة الفقر، وهو الوجه الآخر للعنصرية.
وبقدر ما كانت مواقفه إنسانية على صعيد الداخل الجنوب إفريقي، فقد كان موقفه هذا إفريقياً بشكل عام، بل عالمياً، لأن الموقف الإنساني لا يتجزأ، ورسالة الدين إنسانية وعادلة بعيدة عن الأغراض السياسية والمنافع الشخصية والمصالح الفئوية الضيقة، ومن هذا المنطلق كان موقفه مسانداً لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره، وهو ما كان ضمن قرارات مؤتمر ديربن.
كما عارض الحرب على العراق عام 2003.
إن رحيل ديزموند يُعتبر خسارة كبيرة. فقد لمع أسمه منذ السبعينات، ليس على صعيد المواقف السياسية الكبرى وقضايا السلام بشكل عام، بل بشأن حقوق النساء، فحين أصبح رئيساً لأساقفة كيب تاون عام 1986، أشرف على تقديم الكهنة من النساء، كما عمل لاحقاً رئيساً للتحالف الدولي لمحاربة مرض الإيدز، معتبراً أن تلك المهمة الإنسانية جزءاً من عمل رجال الدين.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"