الجامعة العربية ليست بين الأولويات

00:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

أقامتها قبل سبعة وسبعين عاماً وقامت بإدارتها على امتداد هذا العمر المديد حكومات الدول العربية. الفضل في وجودها واستمرارها يعود وبحق إلى هذه الحكومات، ومن دون تردد وبكل الموضوعية يجب أن نلوم هذه الحكومات على مسؤوليتها عن الحال الراهنة التي تردت إليها الجامعة العربية. نلوم الحكومات التي أقامتها وأدارتها بتدخلاتها المباشرة أو غير المباشرة، ولكننا في الوقت نفسه يجب أن نلوم أطرافاً أخرى وظروفاً خارجية تمثل الآن لنا كعرب وللحكومات العربية ولها، أي للجامعة العربية، تحديات جوهرية. فشلت الجامعة في التعامل مع بعض هذه التحديات، ولم تكن وحدها فأكثر الحكومات العربية فشلت مثلها.
  لم تكن الجامعة العربية في أي وقت عنصراً مستقل الإرادة أو حتى لاعباً أصيلاً في لعبة السياسة في الشرق الأوسط عموماً أو في الإقليم العربي بوجه خاص. كانت ولا تزال لاعباً تابعاً تتقاذفه الدول العربية ذات النفوذ وفي أغلب الأحيان اتفقت على قذفه خارج اللعبة بأسرها.  
 حتى فرصة اللقاء المباشر كادت تختفي كغيرها من ضحايا جائحة الكوفيد. لم تعد القمة العربية تعقد بحضور كامل أعضائها، وإن عقدت فمن مكاتبهم. هكذا تفقد القمة أحد أهم وظائفها وهي الاحتكاك المباشر بين الحكام
  كنت منذ بلغت حدود الوعي السياسي أردد مع آخرين القول الذائع «إن الجامعة مرآة لحال العرب». إن هم نشطوا نشطت الجامعة وإن هم فقدوا عزيمتهم فقدت الجامعة إرادتها وعزمها. حال الجامعة في أي لحظة يعكس حال العرب في تلك اللحظة، لذلك يجب أن نكون صرحاء ومخلصين لأنفسنا وتاريخنا فنقول إن الحال الراهنة للجامعة تكشف لنا عن أن حال الأمة هذه الأيام. والأسباب من وجهة نظري تقع تحت نوعين. هناك أسباب ليست من صنع العرب، وهناك أسباب خاصة بهم أساساً. 
  من هذه التحديات ما نشترك فيه مع العالم بأسره. اشتركنا مع العالم في صنعها أو لم نشترك. المؤكد على كل حال أننا نشترك الآن مع الآخرين في دفع الثمن. اخترت من هذا النوع من التحديات ثلاثة، في رأيي أنها أثرت بحدة في حياة أمم كثيرة ونحن من هذه الأمم.
 * أولاً: وقعنا مثل غيرنا أسرى هذا التحدي الفتاك، وأقصد جائحة الكورونا. أفلحت أمم في حالات نادرة التصدي له فحققت خسائر بشرية أقل. لم يوجد هذا التحدي بهذا الشكل من قبل. لم تتعرض الأمة العربية تحديداً لكارثة بهذا الحجم عطلت مسارات تنمية عديدة وأهلكت مئات الألوف من السكان ودفعت مع أسباب أخرى آلافاً للهجرة.  
* ثانياً: عشنا أكثر سنوات، الثلاثة أرباع القرن الماضية نخضع في علاقاتنا الخارجية وكثير من سلوكياتنا الإقليمية والداخلية لقواعد عمل وضعتها الولايات المتحدة التي كلفت نفسها صنع نظام عالمي جديد مزوداً بقواعد ومواثيق دولية تضمن التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بقواعد معينة في السلوك الدولي لا يجوز الخروج عنها. التزمت معظم الدول بهذه القواعد التي سرعان ما رسخت وبقيت راسخة لفترة طويلة. فجأة، وإن بمقدمات ملحوظة، كنا شهوداً على بدء انحدار الولايات المتحدة، ومع هذا الانحدار تعرضت منظومة قواعد العمل الدولي لتحلل ملموس وإن متدرجاً. 
   في ذلك الوقت أو بعده بقليل، ظهرت أفكار تدعو إلى العمل نحو صياغة قانون دولي جديد أو موازٍ، وقواعد سلوك تضع في اعتبارها مصالح وحقوق شعوب العالم النامي.  وفي شأن الجامعة العربية نهضت من جديد أصوات بتشجيع من نبيل العربي بصفته الأمين العام للجامعة تطالب بإصلاح الجامعة وتطوير ميثاقها وأساليب عملها كرد فعل لحالة التسيب في احترام قواعد العمل الإقليمي. أعرف أن دولاً نافذة أحبطت كل المساعي المبذولة لتعديل مسار الجامعة ووضع قواعد إقليمية لتنظيم السلوك .
* ثالثاً: خضع العالم بدءاً من أعوام السبعينات من القرن العشرين لموجة جديدة ولكن عاتية من موجات العولمة. أسقطت الموجة أو أضعفت عديد المفاهيم وأدخلت أو عززت مفاهيم وممارسات أخرى. خرجنا، أغلبنا، ناقصي سيادة، مشرعة كافة أبوابنا.
   هناك أيضاً الأسباب الذاتية وهي بلا شك كثيرة ولعل بعضها الأقوى تأثيراً من كثير من الأسباب والظروف الخارجية، اخترت منها ما يلي:
* أولاً: انحسرت الهوية، ولنكن أقل حدة فنقول انحسر، بين كثير مما انحسر، الاهتمام بالهوية. فالهوية على المستوى النظري أو الفكري قد تكون من الثوابت بينما المتغير هو الالتزام بها. هناك مؤشرات لا يمكن تجاهلها تشير إلى وجود قصور واضح على مختلف المستويات في التزام العروبة كهوية. لم نعد نتحدث عنها في خطاباتنا السياسية كمعطى لا يقبل الجدل وإنما أشعر أنا شخصياً بأن في الخطاب الرسمي العربي كما لو أن جهوداً تبذل لتفادي سيرة العروبة كأيديولوجية وإن عابرة أو حتى العروبة كهوية ثابتة.
*  ثانياً: نعم لدينا في الجامعة العربية عدد لا بأس به من أعضاء فاشلين كدول. صحيح أن هذا العدد ليس كبيراً إلى درجة تبث شكوكاً حول شرعية وجودها كمنظمة لا بد لتعيش أن تحظى باعتراف المجتمع الدولي، ولكنه صحيح أيضاً أن وجود هذا العدد في منظمة إقليمية كاف ليثير الشك في فاعلية أدائها. إذ إنه حين تكون قاعدة التصويت تعتمد مبدأ الإجماع تصبح أجهزة المنظمة عاجزة عن اتخاذ القرار المناسب .
* ثالثاً:  أثبتت التطورات فشل العرب جميعاً في توليد نظام أمن عربي يحقق هذا الغرض أو جزءاً مهماً منه. لذلك انفرطوا وتشتتوا واختلفوا حتى تخاصم البعض منهم وكانت مرآتهم، أي الجامعة العربية، تعكس هذه الصور البغيضة لتراها بقية أركان الأمة العربية والعالم الخارجي. 
  آن أوان رد الجميل للهوية العربية وللدول السبع المؤسسة للجامعة من جانب الدول التي نشأت ونهضت وترعرعت في حمى أو عطف أو تشجيع الجامعة، فلتنشأ جامعة عربية موازية، أو تبث في الجامعة القائمة طاقة وروحاً، أو تدعو لتصحيح أخطاء جسيمة ارتكبناها في حق الهوية والماضي والمستقبل قبل أن تستفحل عواقب الأخطاء فتجور على ما تبقى.. نعم .. آن الأوان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"