تفكيك الذاكرة

00:07 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تعمل التكنولوجيا الفائقة الحداثة على تفكيك الذاكرة، من خلال عملية تسارع لحظي يحيط بنا من مختلف الجهات، فما نشاهده أو نطالعه يمر بنا بطريقة لا تستطيع ذاكرتنا المحدودة أن تتوقف أمامه لتتأمله وتفكر فيه وتفرزه، ومن ثم تخزن منه ما يلامس أفكار ووجدان كل فرد منا. نحن نعيش في طوفان معرفي متلاحق لا يمنحنا برهة لالتقاط الأنفاس، ولا نلبث أن نقرأ خبراً أو موضوعاً حتى يفاجئنا عشرات غيره، والأمر نفسه ينطبق على الفنون والآداب، وعلى مستوى الأمكنة التي ضغطتها تلك التكنولوجيا افتراضياً أو أتاحتها طفرة السفر في زمن العولمة، حتى بات بعض المنظرين يتحدثون عن مفهوم «اللامكان».

  الذاكرة ضرورة للحيوية الفكرية، فعندما نتوقف طويلاً أمام شيء ما وتقرر ذاكرتنا بلا وعي أن تحتفظ بأثر منه، فإنها في هذه الحالة تضفي على هذا الشيء قيمة ما، ومن خلال قيمنا تنشأ الأفكار المختلفة، وعلى أساسها نستطيع الحوار الجاد والنقاش، وحتى الصراع، مما يسمح بالفرز بين مختلف الرؤى والأطروحات، وصولاً إلى اختيار الأفضل بين البدائل المتاحة لنا في الواقع أو الحلم بالأجمل في حال كنا نخطط للمستقبل، أي أن الذاكرة تمنحنا الحلم والأمل أيضاً.

  تفكيك الذاكرة ليس صناعة إعلامية أو تكنولوجية وحسب، ولكن هناك العديد من المقولات التي تتردد في الوسط الثقافي والفكري ولا ننتبه إلى خطورتها خاصة في العالم العربي، لقد ظل التعليم في مدارسنا يعتمد على الحفظ من دون إعمال العقل، ومع زيادة المطالبات بإصلاح التعليم والعجز عن تضمين المناهج كل ما من شأنه أن يثري العقل ويفعّله. نادى الكثيرون بضرورة إلغاء الحفظ من مختلف المناهج، ولم يتوقف أحدهم ليسأل نفسه بصراحة، عن حال الذاكرة إذا توقف حفظ الأطفال واليافعين. يعود معظم ما تختزنه ذاكرتنا جميعاً من مختلف المعارف إلى ما حفظناه في المدرسة..معلومات أولية في العلوم الطبيعية..مبادئ التاريخ والجغرافيا..أشعار ونصوص أدبية ودينية..ولنا أن نتخيل تلك الأجيال المقبلة التي لم تحفظ شيئاً في التعليم، وتتعرض ذاكرتها للتدمير اللحظي عبر التكنولوجيا الحديثة.

   أحد تعريفات فعل التذكر من منظور فكري يقول: «التذكر امتلاك للحقيقة»، حقيقة الفرد والوعي الجمعي للشعوب والأمم، حتى لا يسهل خداعها من خلال الزيف والتشويه، فمن دون الذاكرة تتساوى جميع الأشياء، وتنتشر اللامبالاة، ويسود التركيز على اللحظة الراهنة، وتتحول الثقافة إلى متعة أو ترفيه، وكلها مفردات تنتمي إلى زمن العولمة.

   الذاكرة فكرة كبرى، ومن هنا خطورتها في زمن يرفض الأفكار نفسها. ولا يمكن استبدالها بذاكرة إلكترونية، فتلك الأخيرة لا تتضمن تلك العمليات المعرفية الطويلة والمعقدة التي تؤسس علاقتنا بأنفسنا والعالم من حولنا. لقد قال الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون يوماً: «الذاكرة هي الاسم الحقيقي لعلاقة المرء بذاته، أو أثر المرء في ذاته»، وحتى في اللغة عندما نقول عن شخص أو حدث «طواه النسيان»، فكأننا ضمنياً نشير إلى أنه لم يعد له من أثر، وربما لم يكن له وجود في يوم من الأيام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"