عثمان حسن
بدءاً، فإن عبارة «الجمهور» أو «الجماهيرية» في صلتها بالشعر، والنثر، والثقافة عموماً، لا تزال غامضة، أو هي تحتاج إلى تفسير أوضح، فمفهوم «الجماهيرية» ملتبس حتى اللحظة، وبعيداً عن هذا الالتباس، هناك سؤال مشروع، حول المقصود بجمهور الشعر على وجه التحديد، بغض النظر عن شكله ونوعه، وهل يمكن –مثلاً- حسابه أو عد رواده داخل القاعة أو الصالة الشعرية، وهل هذا الجمهور الذي يتراوح بين 20 و 30 فرداً على أحسن تقدير يعبر عن ذائقة ما؟.
بكل تأكيد، وقياساً بعدد الحضور، ومن يرغب في الاستماع إلى الشعر، فلا يزال الشعر العمودي يحتل المقدمة، يليه شعر التفعيلة، وبدرجة أقل قصيدة النثر، وهذا بكل تأكيد ليس خافياً على أحد، فصناع قصيدة النثر، يقولون بأنفسهم، إن قصيدتهم، ليست منبرية، ولا تبحث عن جمهور، يتجاوز جمهور الشعر العمودي، أو غيره من الفنون، وهي أيضاً، لا تبحث عن«التصفيق» كما يتوهم البعض، فبراعتها تتلخص في ما تقدمه من جمال، وإزاحة في اللغة والنص والدلالة، وهي براعة مستمدة من«شاعرية» النص، وليس من«شعريته».. وبالمناسبة هذا القول قدمه نقاد كبار، ذهبوا في تفسير«الشاعرية» وفرقوا بينها وبين«الشعرية»منهم الفرنسي غاستون باشلار، ويمكن هنا، مراجعة الكتاب الذي ترجمه جورج سعد بعنوان «شاعرية أحلام اليقظة» لباشلار، وقد أشار إليه أكثر من ناقد مهتم بدراسة تحولات، أو جماليات قصيدة النثر.
هذا الكتاب يؤكد مفردة«شاعرية»في معرض تأكيد المترجم على أن لفظة «شعرية» بالعربية، قد استخدمت في وقت متأخر نسبياً، بصفتها ذات صلة بالشعر وبحوره، وأغراضه، أكثر من كونها توصيفاً للجمال، أو الدفق، أو الجوهر، أو المناخ الشعريّ.
بكل تأكيد، ومع تطور الذائقة النقدية اليوم، فقد استخدم مصطلح الشاعرية، مقروناً بالحس والجمال، وتم التفريق بينه وبين«الشعرية»هذه التي رسخت في منجز«ديوان العرب»«وصارت عنواناً لشكل الشعر، ومنجزه، ذلك لأنه كان يعبر عن«منطوق»حفظه العرب، و«سجلوه» و «وثقوه». لقد تزامنت قصيدة النثر مع تجدد العصر، ولم تكن تريد منافسة الشعر العمودي، أو قصيدة«التفعيلة».. جاءت، لأنها - وبالمناسبة هذا قول نقدي بحت أيضاً- لتعبر عن ذات فردية، وليست جمعية، بل هي نتاج عصري، يوازي حالة التردي، والشتات، الذي يعيشه إنسان اليوم، في ظل البحث عن ذاته المبعثرة هنا وهناك.
لم تكن قصيدة النثر، في يوم من الأيام، طامحة إلى المنافسة والتزاحم، كما أن من يكتبها، ليس قادماً من كوكب آخر، بل هو يكتب بلغة عربية، ويشعر بـ«متعة»ما يقدمه، ومتعة ما«يقصده»من رمزية، وسياق دلالي، وجمالي، وما يقدمه من تكثيف يريده غامضاً، ومرمزاً، وليس مبهماً بكل تأكيد.
مرة أخرى، فإن قصيدة النثر، لا تبحث عن جماهيرية متوهمة، هي كما اسمها«قصيدة»تتوخى«المناكفة» ولا تتوخى «التصفيق» وهي ليست«هامسة»أو«خجلة»بل هي«ضاجة»و «صاخبة» وفي أحيان كثيرة «مجلجلة»، ولا تتوخى هدم المنجز، بل هي حريصة على«جماليات»ما أنجز، وما سينجز من«شاعرية»تليق بالشعر، وبالنثر، وبالثقافة عموماً.
عن أية جماهيرية نتحدث؟ مرة أخرى.. هو سؤال مبهم، وهو«فخ» يحاول جر الشعر، والنثر، إلى معركة لا تليق بكليهما، ولا تليق بالثقافة والتطور والجمال.