"فوبيا" القراءة العلنية

21:35 مساء
قراءة 4 دقائق

يوسف أبولوز

يحمل سؤال «جمهور قصيدة النثر» سؤالين آخرين متلازمين. هما: أولاً: هل للشعر العربي اليوم جمهور؟، وثانياً: إذا كان ثمة من جمهور للشعر، هل يميّز - هذا الجمهور بين قصيدة النثر اللّاموزونة، وبين قصيدة التفعيلة الموزونة؟، وذلك لتشابههما من حيث الكتابة، فالقصيدتان تكتبان وفق نظام الأسطر، سطر شعري فيه كلمة واحدة، وقد يليه سطر شعري ثانٍ فيه خمس كلمات، وهكذا، تتشابه حد التطابق كتابة قصيدة النثر مع قصيدة التفعيلة، وهكذا مرة ثانية، فلا مجال مطلقاً أمام جمهور الشعر لكي يميّز بين قصيدة نثر، وبين قصيدة تفعيلة إلا أن يكون هذا الجمهور مثقف وزنياً، ويعرف العروض وبحور الشعر وأوزانه وتفعيلاته، ومعرفة الوزن سهلة جداً بالنسبة لمن يعرفون هذا النظام العروضي الموسيقي الخليلي للشعر، فالجمهور المثقف والمحترف في سماع الشعر يستطيع معرفة في ما إذا كان الشعر الذي يسمعه موزوناً أم غير موزون بمجرّد تلقي القصيدة سمعياً، أما الجمهور، العشوائي الذي لا يعرف الوزن، قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة هما شعر بالنسبة إليه، وحقيقة الأمر هذه هي البدهية التلقائية، فالشعر هو الشعر سواءً أكان مكتوباً وفق نظام قصيدة النثر، أم كان مكتوباً وفق نظام قصيدة التفعيلة، وفي هذه الحالة، سنعود كما يقولون إلى المربع التساؤلي الأول: هل للشعر العربي اليوم جمهور؟، هل للشعر أو للشعراء العرب جماهير متدافعة على باب صالة القراءة؟، أو هل من جماهير للشعراء العرب اليوم تُنْصَبْ لهم مكبّرات صوت خارج قاعات القراءة؟، وذلك حين تمتلئ هذه القاعات عن بكرة أبيها كما يقولون.

ذات يوم كتب محمد علي فرحات في جريدة الحياة قبل نحو عشرين عاماً مقالة بعنوان «شعب نزار قباني» يصف فيها إقبال الجمهور على أمسيات صاحب «قالت لي السمراء»، ومثلما كان لقباني شعب كناية عن الجمهور الذي يسمعه ويتدافع إلى أمسياته، كان هناك أيضاً شعب آخر لمحمود درويش، وشعب آخر للجواهري، وشعب آخر لسعيد عقل غير أن هذه «الشعوب» تلاشت أو تفككت مع موت هؤلاء الشعراء الجماهيريين في العقود الأخيرة، واليوم، من النادر أن يحتشد ألف شخص من أجل شاعر، لا بل، اذهب إلى أمسيات قراءة لشعراء الصف الثاني والثالث بعد الشعراء النجوم أو لنقل «شعراء الشعوب»، أو «شعراء الجماهير» فلن تجد أكثر من مئة - من الجمهور في الحالات القصوى، سواءً أكانت الأمسية لشاعر نثر، أم كانت لشاعر تفعيلة.

وصلنا، إذاً، إلى المضمون الأساسي للتساؤل الذي يتمركز حول جمهور قصيدة النثر، فاجتهد بالقول إن هذا الجمهور نخبوي تماماً، وللأسف أيضاً هو جمهور «متعصّب تماماً» أيضاً.. كيف؟، ببساطة، يسارع شعراء قصيدة النثر؛ بل، يهرولون إلى أمسيات زملائهم «النثريين»، فما إن كان شاعر مثل سركون بولص، أحد أمراء قصيدة النثر، يقرأ في أمسية ما، حتى تجد حوله طوقاً من المريدين، الفائرين بالحماسة للشاعر ولقصيدة الشاعر لأنه شاعر قصيدة نثر، وللقصيدة لأنها قصيدة نثر، وما عدا ذلك لا شأن لهم به.

دوائر، دوائر من جمهور نخبوي، ضيّق، متخصص؛ بل متعصّب في حدود معينة حول أدونيس حين يقرأ قصائد نثر بشكل خاص. دوائر أخرى حول عباس بيضون تتألف عادة من رفاقه شعراء قصائد النثر أو من الجمهور المثقف الذي أخذ يدرك الفرق بين قصيدة نثر، وقصيدة تفعيلة. دوائر أخرى أيضاً ضيّقة، متعصبة حول محمد بنّيس أيضاً أحد أمراء قصيدة النثر في المغرب، ولكن دوائره الجماهيرية هذه اتسعت إلى أن وصلت عشرات شعراء قصيدة النثر، وتحديداً في منطقة الخليج العربي، ثم دوائر جماهيرية ضيّقة أيضاً و«مريدية» حول قاسم حدّاد «البحرين»، وسيف الرحبي، وزاهر الجيزاني «سلطنة عُمان»، وعبدالمنعم رمضان «مصر» وغيرهم العشرات؛ بل المئات من شعراء قصيدة النثر، وأغلبهم، للحق، ينأى بنفسه عن «المريدية»، والكثير من شعراء قصيدة النثر، للحق مرة ثانية، يتجنّب فكرة أن تكون حوله دوائر من خاصة أو من عامة، والبعض من شعراء قصيدة النثر نادراً ما يقرأ في أمسية شعرية، مهرجانية، تصفيقية، منبرية كما هو الحال عند المئات من شعراء قصيدة العمود، وقصيدة التفعيلة.

هي نقطة، إذاً، جديرة بالإشارة إليها، وهي أن الكثير من شعراء قصيدة النثر لديهم ما يشبه «الفوبيا» من القراءة وسط جماهير أو وسط «شعب».

شاعر قصيدة النثر بالعموم ليس معنياً بالقراءة على منابر أو في مهرجانات، وبالتالي، فإنه لا جمهور لقصيدة النثر بمعنى «شعب»، وبمعنى «مكبرات الصوت» لا بل إن بعض شعراء قصيدة النثر يَرَوْن أن هذه القصيدة هي قصيدة «هَمْس» أكثر منها قصيدة تشخيص مسرحي، وحركي، وصوتي على منبر القراءة.

مرة ثانية، إذاً، نعود تلقائياً إلى ثقافة الجمهور ووعيه الشعري ونضجه الأدبي، وكلّها تجعله يميّز بين قصيدة وأخرى وهو يبحث فقط عن الشعر. الشعر وحده في هذا الركام العربي من النثر ومن التفعيلة. عندها لا يصفّق الجمهور لشاعر يزعق ويصرخ على منصة القراءة؛ بل، يرميه بالطماطم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"