عراة يلتحفون السماء

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

برد قارس، أمطار، ثلوج، عواصف، أعاصير ورعد وبرق.. البعض يرى في المشهد رومانسية الشتاء، والبعض يرى مدفأة وناراً ترقص فيها وأسرة تجتمع حولها، لكن هناك بعض ثالث لا يرى سوى البدن المرتعش والشفاه الزرقاء، والقلب الذي يكاد يتوقف من شدة البرد. هذا البعض الثالث يقف في العراء بانتظار رأفة ما، بعدما شردته حروب وزاد قهره قهراً وفقره فقراً، في وقت يشهد فيه العالم تطرفاً في كل شيء حتى في الطقس وتقلباته والمناخ وأحواله.
ميسورو الحال يضعون على رأس أولوياتهم تزويد منازلهم بكل أجهزة التكييف والتدفئة التي تقيهم من عواقب البرد الشديد أو الحر الشديد، والأقل يسراً يحرصون على وجود «الدفايات» أو المراوح للغرض ذاته، ولكن بيننا أناس يلتحفون السماء، ولا يجدون سقفاً يحميهم من التقلبات الجوية، ولا يمتلكون ملابس تمنع اختراق البرد إلى عظامهم، ولا أغطية تخفف عنهم حدته وهم نيام. 
هؤلاء هم اللاجئون أو النازحون هرباً من الموت في مناطق الصراعات، والذين شردتهم الحروب وأجبرتهم على ترك بيوتهم ومتاعهم أملاً في النجاة من حرب في هذه البقعة أو تلك على الكوكب الذي غدر به سادته، وحولوه من كوكب للحياة إلى أرض للصراع والقتل والتخريب والتدمير. 
الحروب يشعلها من يسكنون القصور ويمتلكون السلطة، وأحياناً من يطمعون في السلطة ويسعون إلى تغيير جغرافيا العالم سواء بدوافع سلطوية أو عقائدية، وأول ضحاياها هم هؤلاء الأبرياء الذين لا يتجاوز طموحهم حق الحياة في سلام وأمان، وحق الحصول على لقمة العيش من عرق الجبين، فهم ليسوا جنوداً في جيش، وليسوا مسلحين في جماعة إرهابية، ولا يتشدقون بالكلام عن السياسة لوعيهم أن كلامهم لن يقدم ولن يؤخر. يبتغون السلام ولا يجدونه، ويبحثون عن الأمان ولا يحصلون عليه، ونتيجة الحروب الموزعة على خريطة الأرض يهربون بحثاً عن الأمان المفقود، ليجدوا أنفسهم عالقين على حدود دول أو غارقين في مياه بحار أو محيطات، أو مطاردين من شعوب لا ترحب باللاجئين، فيداهمهم برد وثلوج وعواصف الشتاء، ويلقون نفس المصير الذي هربوا منه في أوطانهم، وكأن الموت بعد تشرد ومعاناة قدرهم المحتوم. 
من يشعلون الحروب ومن يتصارعون على السلطة والثروة والقرار في العالم، يشعلون النيران في بيوتهم ليحتموا من البرد وجنون العواصف، ويدركون أن أفعالهم تقضي على أحلام الملايين من البشر، وتشرد الملايين، وتدعهم بلا حياة وبلا دفء حتى يأتيهم الموت. 
الكارثة أن صانع الخراب وقاتل اللاجئين ومشرد المستقرين واحد، فمن يشعل حروباً هو نفسه من يتجاوز على الطبيعة، وهو نفسه من يخلق الفتنة ويدعها تتجول في العالم، وهو أيضاً من يسعى لإسقاط الدول ويسعى لتقسيمها على مقاس مصالحه، ومن يصنع السلام هو نفسه من يحرص على الاعتدال المناخي، ومن ينزعج من ازدياد اللاجئين حول العالم، ومن يسعى لإطفاء حرائق الفتنة، ومن يحرص على استقرار العالم وأمان الإنسانية. 
آخر تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين يؤكد أن عدد اللاجئين بلغ 82,4 مليون، وأن الأطفال يشكلون 42% من إجمالي النازحين، وخلال الإغلاق العالمي في عام 2020 استجابة لإرادة فيروس كورونا نزح 3 ملايين شخص من منازلهم هروباً من حروب لم تتوقف وصراعات لم يرجئها الفيروس، هربوا من موت إلى وباء وبلاء وموت. 
هذه الملايين من المسالمين كباراً ونساء وشباباً وأطفالاً يلتحفون العراء في البرد القارس، وبعضهم يسكنون مخيمات لا تحمي من قسوة البرد ولا تمنع تسرب مياه الأمطار، ومنهم المئات بل الآلاف يموتون من عواقب الطقس المتطرف. 
بين البشر قساة ورحماء، كذلك الدول، وإنسانية الإمارات تدفعها دوماً للوقوف بجوار المستضعفين في الأرض، فهي إلى جانب مساعيها الدبلوماسية لوقف صراعات في أكثر من بقعة، ومدها يد السلام للمحيطين وغير المحيطين، فإنها اليوم تسعى للتخفيف من قسوة الشتاء على 100 ألف أسرة من اللاجئين والنازحين والمعدمين في العالم، من خلال آخر مبادراتها الإنسانية حملة «لنجعل شتاءهم أدفأ».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"