نهاية عسيرة للنظام العالمي

02:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

سئلتُ إن كنت أتوقع، أو أنتظر، نهاية قريبة للنظام الدولي القائم؟ أجبت بنعم، ولكن لن تكون النهاية قريبة جداً، كما يعتقد أو ينتظر البعض. صحيح أن بعضاً من مقومات النهاية تتجمع بكثافة كالسحب قبل أن تمطر، ولكنه صحيح أيضاً أن سحباً أخرى نراها عند الأفق تتجمع وتعلن عن قرب قدومها بشرارات ضوئية وانفجارات رعدية، وفي الأغلب تنتظر دعماً أكبر لتزداد نضجاً وقدرة على تغيير الأحوال في اللحظة المناسبة.    
   لا أحد، حسب تقديري، يستطيع أن يحدد موعد التغيير ومداه، أو أن يقرر اكتمال الشروط الواجبة لإطلاق الشرارة الأولى، أو يستطيع تحديد  بدقة   معقولة حجم العنف المطلوب لهذا الإطلاق.
   أتيت على سيرة العنف المطلوب في هذه المرة، أقصد الانتقال المنتظر من نظام دولي إلى نظام دولي آخر، لا لأنني أعتقد أن شرطاً أساسياً، وهو العنف، يجب أن يتوفر لكي تبدأ عملية إطلاق مسيرة الانتقال، ولكن لأنني أعرف، ويذكّرني بها دائما الدكتور هنري كيسنجر، أن الانتقال إلى نظام دولي جديد في أوائل القرن التاسع عشر حدث بعد حروب نابوليونية استمرت لأكثر من خمسة عشر عاماً. هناك في مدينة فيينا عاصمة إمبراطورية النمسا والمجر اجتمع قادة أوروبا، وبينهم ممثلون عن فرنسا، وقرروا إطلاق مسيرة الانتقال إلى نظام توازن القوى الذي هيمن على القارة لمدة طويلة، قبل أن تمتد إليه يد التخريب والرغبة في التغيير في أواخر القرن والسنوات القليلة التالية من القرن العشرين. 
  قرأت مؤخراً لكاتب له قدره من الخبرة، تحليلاً لظروف الانتقال إلى نظام القطبين، جاء فيه أن الرئيس روزفلت الذي رضع منذ طفولته كره الأمريكيين لأوروبا ومشكلاتها وثقافتها، ما كان يدخل الحرب العالمية الثانية لإنقاذ أوروبا من نفسها لو لم يقدم اليابانيون على قصف ميناء بيرل هاربور. كان هذا القصف العنصر الأعظم الذي أجبر الرئيس روزفلت على الاقتناع بضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بصنع نظام دولي جديد يحل محل الفوضى الناشبة في العالم نتيجة سقوط نظام توازن القوى.
  إذن، كان العنف ضرورياً في هذه الحالة للشروع في الانتقال إلى نظام دولي جديد تحل فيه الولايات المتحدة محل بريطانيا العظمى. وفي ظل هذا العنف، أي في ظل الحرب، نجحت روسيا الشيوعية في تغيير خريطة أوروبا، وانتهت بتقسيمها بينها وبين حلفائها الغربيين. انتهت الحرب وخرجت الولايات المتحدة القطب الأقوى، ومعه، أو يليه القطب الروسي، وقد اتخذ صورة الإمبراطورية السوفييتية في خصومة شديدة مع حلفائه الرأسماليين الذين حاربوا معه ضد دول المحور. 
  ولولا وجود روسيا منتصرة ومتوسعة في شرق أوروبا والقوقاز وشمال وسط آسيا، لربما سمحت الولايات المتحد لنفسها بأن تقود العالم منفردة، عالم القطب الواحد. وقام نظام القطبين على أساس تفاهم بين قوتين عظميين غير متساويتين تماماً، وبمنظومتي فكر ومبادئ متناقضة. هكذا ضاعت فرصة أمريكا لإقامة نظام دولي أحادي القطبية لتعود الفرصة من جديد عقب هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة. وحانت الفرصة المستجدة ونقيضها في آن واحدة. إذ أعلن الرئيس بوش قيام نظام دولي أحادي القطبية. هذا الإعلان لم يسبقه عنف ملحوظ، فضلاً عن أنه لم يعتمد على حجج قوية باستثناء خلو الساحة من خصم، أو منافس يعتد به. 
 في هذه الأثناء، صعدت الصين بدعم من الولايات المتحدة. وقدمت الاثنتان عرضاً مذهلاً لقدرة العمل التعاوني على تحقيق التغيير في أجل قصير للغاية، بينما فشلت روسيا وأمريكا في تحقيق تغيير مناسب للطرفين. فشلتا لأسباب متعددة ليس أقلها شأناً الانهيار في نخبة الحكم وغياب طبقة سياسية ومؤسسات فاعلة على عكس الصين التي وفرتها جميعاً. وعلى كل حال لم يطل الأمر في الحالتين. إذ اشتركت عناصر متعددة لفرض ضرورات الانتقال إلى عالم جديد، من هذه العناصر:
*أولاً: الاستمرار المطرد لتراجع متانة البنية التحتية الأمريكية. وصلت في حالات معينة إلى حد الإنهاك بسبب عدم التجديد ونزيف الناتج عن عشرين عاماً من حرب في أفغانستان بلا فائدة أو عائد.
*ثانياً: خرجت أمريكا من عهد ترامب وبدايات العهد الحالي بنقص في الهيبة. إذ كشف ترامب عن مدى ما يحمله من عدم ثقة بحلفاء أمريكا من الأوروبيين، فضلاً عن تصرفاته الشعبوية والمتطرفة.
*ثالثاً: لا يغيب عن بصر المراقب الواعي حال الكآبة المهيمنة على مزاج الرأي العام الأمريكي. مزاج حقاً كئيب يعكس نفسه في العديد من التحولات السياسية التي تحدث في ولايات عدة تؤشر جميعها إلى ردة عن الديمقراطية بمضمونها التاريخي والعاطفي، بل والدستوري أيضاً. 
*رابعاً: على الجانب الآخر للانحدار الأمريكي صعود صيني ومراجعة روسية. الصين قوة تجارية هي الأولى وقوة اقتصادية هي الثانية وناتجها القومي ينمو بمعدل لا يقارن. والصين المصدر الأول للقروض وهي الأكثر سكاناً، وجيشها هو الأكبر. 
  أتصور فعلاً أن السباق نحو القمة وصل إلى مرحلة حادة. يكفي أن نلاحظ حالة الميل الشديد لممارسة درجة عالية من العنف للتدخل في مسار الصعود للقمة أو المحافظة على الحال الراهنة. نلاحظ فعلاً الدعم الكبير من جانب الكونجرس الأمريكي وتيار واسع في الطبقة الحاكمة وكثير من صناع الرأي لتصعيد لهجة الحرب مع روسيا والصين. وفي الوقت نفسه لاحظنا تريثاً لافتاً من جانب الصين في المواجهة التي تحاول القيادة الأمريكية منذ عهد ترامب فرضها على القادة الصينيين. وفي الوقت نفسه لا تزال موسكو تمارس العنف الدبلوماسي والعسكري إيماناً منها بأن العنف هو الطريق لفرض روسيا لاعباً رئيساً، خاصة أن السباق نحو القمة كاد يقترب من نهايته. 
  هل أخلص إلى أن التصعيد الراهن في لغة العنف وفي التحركات العسكرية على الأرض يؤذن بعنف أشد؟ أمريكا تسعى نحو صياغة خريطة طريق تضمن لها استمرار النظام الراهن من دون إدخال تعديلات على قواعد السلوك تحد من نفوذها.    ويبدو من التطورات الجارية أن الصقور في أمريكا وروسيا لهم الغلبة في إدارة هذا السباق، وإذا استمرت مظاهر العنف أو العنف ذاته سيكون من الصعب أن تستمر الصين تؤجل الانغماس بعمق في السباق قبل أن يكتمل صعودها على كل الصعد. 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"