ثلاثة أيام تاريخية لا تُنسى

00:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

ذكريات طيبة تسكن النفس، ولا تغادرها، لوجه يبشر دوماً بالخير، وبأخلاقيات التواضع والمروءة، والحس الإنساني، وبالغيرة الوطنية، وحلاوة الإيمان الروحي، والمجسد سلوكاً وأعمالاً.

 تحضر صورته، وأحياناً صوته الدافئ، كصوفي معرفي، بات ليله على التسبيح والتأمل، يترقب فجراً يلوح بالبشائر، يضيء أمام السالكين دروباً للسلامة والمعرفة والرزق وكرامة الإنسان، يشاهدهم من بعيد، من شرفة قصره في لحظات الصباح الأولى، كما قال ذات حديث.

 بيننا مودة القلب، وصفاء العقل، ووحدة الهموم العربية، ونبض الغيرة على الاتحاد والأمة، ولذعة الحزن على ما يجري في وطننا العربي، وابتسامة الفرح والدهشة أمام مشاريعه الثقافية والعلمية والإنسانية المفعمة بالخير العام، وبالأمل في معاودة صنع الحضارة العربية، والتجدد الحضاري.

 إيمانه كبير، في دور التربية والكلمة والإبداع والضمير المسؤول والرؤية الثاقبة، في تطوير المجتمع، وبث الحيوية والعمل المنتج في الإنسان، يتوغل في التاريخ، تصحيحاً وإعادة كتابة، والحفر في سرديات الماضي ودروسه، يبحث في هجرة الأنباط إلى الخليج، ويحقق في مرسوم بابوي صدر في شهر أغسطس (آب) عام 1624، لجمع الأموال لتأسيس أسطول برتغالي لإعادة احتلال هرمز، ويكشف الغطاء عما لحق الموريسكيون المسلمون، من تقتيل وطرد وعبودية من الأندلس، ويبرئ أحمد بن ماجد، «ويرد الجميل» لمصر، فيرمم المجمع العلمي المصري، بعد أن أحرقه الإرهاب، ودمر فيه أكثر من مئتي ألف كتاب، وأهمها مجلدات (وصف مصر)، ويتقدم، بعد الترميم، بإهداء هذا المجمع نسخته الشخصية النادرة من مجلدات (وصف مصر) التي لا تقدر بثمن.

 كم حدثني عن (أم الدنيا)، وعن الناس الطيبين فيها، وعن (بهية) صبية متجددة، لها (نهارات وليالٍ قادمة). في أكثر من مكان ووطن، له أيادٍ بيضاء، وله ولبلاده الإمارات الصيت الطيب، والراية البيضاء أيضاً.

 عرفناه كطالب جامعي نجيب، رأى ذات يوم مبكر في (الزراعة) وكأن «الشجر هو شِعر الأرض»، وفي عقود تالية، كان راعياً ومؤسساً لبيوت الشِعر ولمنتديات للشعراء في مدن عربية تعشق، مثله، الشِعر ولغة الضاد الرسولية.

 تعلمت الكثير، من نبله ووطنيته، ومن صبره وإرادته التي لا تعرف اليأس، منذ أيام (نادي العروبة)، وتأسيس «الخليج والشروق»، ولا تغيب عن الذاكرة حزنه ووجعه، في ليلة «قاهرية» كئيبة عقب إعلان هزيمة عسكرية عربية (1967)، ورحنا نردد معه قوله ( يا ندامة….)، كما أذكر قلقه العميق، قبل أعوام، أمام ظاهرة استغلال المقدس وتسييسه، في وطننا العربي، والذي ما زال يعاني كمركب هائم في لجة كبيرة.

لمست على مدى سنين طويلة، الكثير من ينابيعه النفسية، المكتنزة بالقيم الإنسانية، والتواضع الفطري غير المتكلف، والسريرة النقية، واللسان العف، والخطاب الدافئ، والغيرة الوطنية والقومية.

 حقق الحلم الذي كان يراوده منذ عقود، الحلم الذي كان ضرباً من الخيال العربي قبل ثمانين عاماً، وأصدر«المعجم التاريخي للغة العربية»، باعتبار أن اللغة هي عماد الهُوية وذاكرتها الثقافية، والتي تضبط تفكيرها.

 يملك رؤية فكرية إنسانية ومعرفية، فيما يكتب من إبداعات أدبية، ونصوص بحثية وتاريخية، ويمسك بوصلة متماسكة، أخلاقية وفي الشأن العام، لا تعرف اليأس أو البطالة، ولا تعيقها حمولات الحكم ومسؤولياته.

 نختزن ذكريات جميلة، نتشاركها أحياناً، وأخرى عن أحداث ومواقف ولحظات وجع، يتجاوزها بابتسامة مكتنزة بحمد لله وشكره. يقلقه «اتساع الخرق على الراقع» في العالم العربي، وارتفاع منسوب المعايير المزدوجة في البيئة الدولية.

 ويحضر إلى الذاكرة، في مثل هذه الأيام. قبل خمسين عاماً، مشهد اليوم الحزين، الذي قتل فيه المغفور له الشهيد الشيخ خالد بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، في يوم الرابع والعشرين من يناير/ كانون الثاني 1972، «ووقوف جيش الاتحاد، بالمرصاد للمحاولات التي تهدف إلى النيل، من اتحادنا واستقلالنا» على حد قول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وزير الدفاع حينذاك (كتاب؛ حديث الذاكرة الجزء الأول، للشيخ الدكتور سلطان).

 كما يحضر إلى الذاكرة، مشهد تشييع الجنازة، في صبيحة يوم عيد الأضحى، في السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني، وأتذكر رفيقي العمر تريم وعبد الله عمران، رحمهما الله، ونحن في طريقنا إلى مقبرة الجبيل، ومدى الحزن والنشيج الذي خيّم على هذه الجنازة الرسمية والشعبية، والتي كان يتقدمها المغفور له صاحب السمو رئيس الدولة وأصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات، طيب الله ثراهم أجمعين.

 وما زالت ذكرى تلك الأيام الثلاثة المفصلية، حية في الذاكرة، ومنها أيضاً ذلك المشهد التاريخي، حينما تم انتخاب سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، حاكماً لإمارة الشارقة، في اجتماع لشيوخ القواسم وكبار أعيان الشارقة، جرى قبل ظهر يوم الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني، في فيلا بمنطقة الفيحاء كانت تضم مكتباً للحاكم يديره سمو الشيخ سلطان، حيث تم تعيينه إثر تخرجه في الجامعة.

 هي لحظات وأيام تاريخية.. محفورة في الذاكرة، ووثقها في كتبه ومذكراته المنشورة، صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان، وأجمع من عرفه وخبره أنه الأقدر على حمل المسؤولية.

 أيها الأخ والصديق والمعلم والحاكم المسؤول.. نحيّيك في هذا اليوم الذي حملت فيه رسالة المسؤولية بأمانة وثقة، والتفاف شعبي واسع وقوي، نفاخر بك ونعتز بإنجازاتك، إماراتياً وعربياً وحاكماً، ومثقفاً وأديباً ومربياً وإنساناً نبيلاً، وندعو الله أن يحفظك والشيخة الفاضلة جواهر، وأسرتك، ويمتعك بالصحة والعافية وطول العمر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"