رافد «حلف الفضول»

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ ما يزيد على ربع قرن، وكلّما اقتربتْ الذكرى السنوية لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) يذكّرني الدكتور جورج جبور بحلف الفضول، الذي اشتغلنا عليه، وكتبنا فيه، وحاضرنا عنه سنوات غير قليلة، باعتباره رافداً من الروافد العربية لحقوق الإنسان، فلماذا يتم إهمال رافدنا في حين تتسابق الأمم والبلدان لتأكيد روافدها؟ وعلى أغلب الظن، أن الحلف تأسس بين أعوام 590 – 595م، أي ما يزيد على ستة قرون على صدور الماغنا كارتا «العهد العظيم»، وقبل نحو 12 قرناً من الثورة الفرنسية وصدور «ميثاق حقوق الإنسان والمواطن».
 والسؤال الذي يتردّد بقوة ويطرح نفسه بعد انتشار فكرة حقوق الإنسان، هل يمكن مقاربة «حلف الفضول» لفكرة حقوق الإنسان المعاصرة تاريخياً؟ وهل هناك جذور لمفاهيم حقوق الإنسان في تاريخنا العربي؟
 العرب كأمة، مثل غيرها من الأمم، لا يمكنها غضّ الطرف عن الفكرة الكونية لحقوق الإنسان، خصوصاً أن الفكرة اكتسبت بعداً دولياً وحظيت باهتمام كبير من جانب المجتمع الدولي، وبالتالي لا بدّ من البحث في تراثنا بما ينسجم مع توجّهاتها، علماً بأن الفكرة، وإنْ كانت نبيلة وإنسانية، إلّا أنها تستخدم أحياناً لأغراض سياسية وبطريقة انتقائية وبمعايير ازدواجية، خصوصاً من جانب القوى المتنفذة في العلاقات الدولية، من دون أن نتجاهل أن بعض الاتجاهات المتعصّبة في عالمنا العربي تعاملت معها باعتبارها «بدعة غربية»، و«اختراعاً مشبوهاً»، نافية لدرجة الإنكار أيّة علاقة لها بالتاريخ العربي الإسلامي.
 فما هي فكرة الحلف؟ وما علاقته بالفكرة الكونية لحقوق الإنسان؟
 نشأ حلف الفضول حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبدالله بن جدعان، وتعاهدوا على  «ألّا يدعوا ببطن مكّة مظلوماً من أهلها، أو من دخلها من غيرها من سائر الناس، إلّا كانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته».
 وقد اتّخذ الإسلام موقفاً إيجابياً من حلف الفضول «الجاهلي». وحين ألغى النبي محمد، صلى الله عليه وسلّم، كل أحلاف الجاهلية استثنى منها حلف الفضول، ويوم سُئِل عنه أجاب: «شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو أنني دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت».
 الحلف الذي نعتبره أول رابطة لحقوق الإنسان هو تعاهدٌ على: رفض الظلم والعمل على إلغائه. والمساواة بين أهل مكة، ومن دخلها من سائر الناس. وإحقاق الحق، ونصرة المظلوم، وردّ الحقوق إليه، والوقوف ضد الظالم، والحفاظ على حياة الناس وكرامتهم، واللجوء إلى هيئة (الفضلاء) لردّ الظلم.
 وذلك لعمري يمثل جوهر فكرة حقوق الإنسان المعاصر، برفض الظلم والتمييز مهما كان نوعه مدنياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، أو اقتصادياً، أو ثقافياً. وقد اغتنت فكرة الحلف وتعمّقت بالقيم والمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة.
 جديرٌ بالذكر أن المفكر جورج جبّور ظلّ يخاطب الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الحقوقية حتى تم الاعتراف به في عام 2007، حيث وردت الإشارة إليه في بيان أصدرته المفوضية السامية لحقوق الإنسان باعتباره أحد مصادر الفكرة الكونية لحقوق الإنسان.
 ومثل هذه الإشارة لها دلالاتها المهمة، فهي تعني أن العرب قاربوا فكرة حقوق الإنسان منذ ما يزيد على 1400 سنة، ولهم رافدهم الثقافي إسوة ببقية الأمم والشعوب التي تبحث في تاريخها وتراثها ما يدعم الفكرة المعاصرة بدلاً من التنكّر لها، أو تجاهلها. كما أنها تردّ على الذين يتهمون العرب بأن دينهم يحضّ على الكراهية والعنف والإرهاب.
 إن فكرة حلف الفضول، وما يمثله من ثقافة وإرث تاريخي، هي ردّ على تلك الاتجاهات السائدة في الغرب التي تعتبر العرب والمسلمين متناقضين كلياً مع فكرة حقوق الإنسان بالفطرة، ومتصادمين مع مبادئها ثقافياً، وللردّ على ذلك نقول إن العرب والمسلمين معنيون، مثل غيرهم، بحقوق الإنسان دفاعاً عن حقهم في الوجود، وهويّتهم الخاصة في الانبعاث وتحقيق التنمية والتقدم واللحاق بركب البلدان المتقدمة في العيش بسلام وحريّة وكرامة، وتأمين مستقبل أفضل لحياة شعوبهم، وفقاً لخصوصياتهم وتمايزهم الديني والثقافي، من دون إهمال التطور العالمي في هذا الميدان، بل التفاعل معه والانفتاح عليه على نحو إيجابي، ولكن من دون أن يعني ذلك إهمال، أو التخلي عن خصائصهم بزعم الشمولية والعالمية، وهذه الأخيرة بقدر ما فيها من معايير عامة تخصّ البشر ككل، فإنها تحتاج إلى احترام الهويات الخاصة للشعوب وثقافاتها، في إطار المشترك العالمي والقيم الإنسانية العالمية.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"