عادي
المقاومة تهزم أحلام المحتل قبل انطلاق رحلة النهضة

«سرد المكان».. مسيرة الشارقة مطرزة بالنور

23:28 مساء
قراءة 5 دقائق
3

الشارقة: زكية كردي

على المسرح كان ضوء القمر ساحراً وهو يتوسط الغيوم، حقيقياً وقريباً جداً، وكأن تلك المساحة استحالت نافذة زمنية لجمهور متلهف كي يعيش تفاصيل الحكاية بكل هذا الزخم الفني المفعم بالمشاعر، مشدوداً إلى تلك السفن التي بدأت تحط على ضفاف المسرح. وتبدأ المعركة، يؤججها الإيقاع المتسارع على ضربات خطى الراقصين الموزعين على مجموعتين: مجموعة الجنود المحتلين ببدلاتهم الملونة، ومجموعة أبناء الإمارات بزيهم الأبيض الذي استمر حاضراً طوال عرض «سرد المكان» لينقل إيحاءً جميلاً بمعنى ارتباط هؤلاء الرجال بهويتهم وفخرهم بهم.

هذا العمل المتقن أكبر عرض فني يسرد تاريخ ومنجزات إمارة الشارقة بمشاركة أكثر من مئة فنان، وباستخدام أحدث تقنيات العروض المسرحية في العالم، ليعكس مشاهد يعززها توظيف الموسيقى والضوء لتجسيد حالة المقاومة التي بذلها أهل الشارقة في وجه الاستعمار، قبل الانتقال إلى مسيرة البناء والتشييد في عاصمة الثقافتين العربية والإسلامية، التي تشكلت برؤى ونهج صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، على مدى خمسين عاماً من الارتقاء والتقدم الحضاري.

على الخشبة تدور المعركة متصاعدة بخطى الراقصين وقرع الطبول، كل ما يحيط بالعرض معتم إلا تلك البقعة المتوهجة بالأضواء، وأعين الحضور ترصد أداء الراقصين مترقبة لحظة إنزال أعلام المحتلين ورفع العلم الإماراتي الذي توسط خشبة المسرح بمشهد بهي لختام اللوحة الأولى، قبل الانتقال إلى العرض الغنائي الراقص «الشارقة نور شمس لا تغيب» ليعلن عن مرحلة بزوغ الشمس على شاشة العرض، بينما انهمك الراقصون بتجميع تلك الأقواس الذهبية الكبيرة معاً لبناء مجسم للشمس على خشبة المسرح، ليعيدوا تفكيكه وإزالته بخفة قبل الانتقال إلى مشهد للبيوت والأسواق القديمة في الشارقة.

المشهد صمم بإضاءة ساحرة وبدقة عالية تربك العقل، بينما يتأمل مدى حقيقة هذا المشهد الدافئ لتلك البيوت والشوارع المطلة على خشبة المسرح تتنفس جدرانها رائحة الفجر، فتترقب الذاكرة مشهد الصيادين والميناء، والحمالين وهم يجوبون الخشبة بأكياس الخيش قبل أن يبدؤوا ببناء سفينتهم على المسرح، والإبحار بها عبر الأمواج التي تدفقت على الشاشة في الخلف لتمتد أشرطتها التي يحملها الراقصون على الخشبة، ليشغلوا أذهاننا بجمالية توزعهم قبل أن ننتبه للمفاجأة التي كانت تتحضر في الخلف مع بدء الأغنية.

تناقض جميل

كانت فكرة المزج ما بين التحليق والغوص في أعماق البحار ملهمة حقاً في هذا العرض، الرقص في الهواء والاحتيال على واقعية الفكرة، ذاك المشهد الساحر الذي كملته الصورة في الخلف ولعب دوراً كبيراً في صناعة هذا التناقض الجميل المستوحى من أحلام الإنسان البدائية بامتلاك قدرات تمنحه المزيد من القدرة على الاكتشاف، والمزيد من التجارب.

ولا بد في هذه اللوحة من الوقوف على جمال الأغنية التي جسدت هذا الحب الجميل الذي ارتبط بالبحر وبعودة الصيادين من رحلاتهم الطويلة، وهذا الأمل الذي ترقبه الحبيبة والزوجة المنتظرة لشهور وشهور عودة السفن المحملة باللؤلؤ وبالصيادين.

ولا بد من الحديث عن تميز قدرات الراقصين الذي برز باستخدام مهارات متنوعة في العمل، والتمكن من مهارات «الأكروبات» لإغناء هذا العرض الأدائي، وتغذية عناصر الإبهار والمفاجآت فيه، لنجد الراقصين يتحلقون على أكتاف بعضهم في أماكن عدة بكل خفة ومهارة، فيصعد واحد على كتف الآخر ليصعد على كتف ثانٍ فيعلو قدر المراد، ويقفز بالهواء متنقلاً ما بين كتف وآخر بكل خفة، ثم يعود إلى الأرض رشيقاً هادئاً فرحاً يحمل صناديق البضائع وحبات اللؤلؤ المضيئة كالأقمار، ليضخ الأفكار في شرايين الحياة.

اكتشاف الذات

ينتقل العرض إلى مشهد إيحائي لطفل يستبدل بالسلاح المعرفة، فيرهن خنجره ليشتري الكتب، وسرعان ما تنتقل منصة العرض إلى اللوحة الراقصة التالية. ومن المثير للاهتمام هنا تلك الطريقة التي عبر بها الراقصون عن هذه الرحلة الداخلية لاكتشاف الذات باعتناق الكتاب، فينتقل الإنسان هنا من قراءة معارف الآخرين والاطلاع عليها إلى تدوين معارفه وتجاربه الخاصة، بينما يتطور ويكبر في دروب العلم، حاملاً ريشته ليدون تاريخ الشارقة المصحوب بالضوء. هذا الضوء اعتنقه الفنان ليعلو وهو ممسك به، يتراقص معه بانسيابية ساحرة فيبدو كجسد اتحد بالنور وراح يدور حول نفسه ليضيء العالم من حوله، قبل أن يعود وينضم إلى أقرانه المحملين بالكتب. ينسحبون لتقترب المكتبات المكتظة بالكتب فتملأ الشاشة مذكّرة بالقيمة الكبيرة التي لطالما أولتها إمارة الشارقة للكتاب على مر السنين، بدعم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي.

ومن روح هوية الشارقة الثقافية والفنية الخاصة المتمثلة بتراثها العمراني والحضاري تمثلت اللوحة التالية، والتي بذل فيها الراقصون الكثير من الجهد وهم يتناولون الحجارة الكبيرة لتأسيس جدارهم الضخم على خشبة المسرح، متنقلين فوق أكتاف بعضهم لطوابق عدة، وهم منهمكون بالبناء الذي يتوسط اللوحة الفنية المتحركة على الشاشة في الخلف لتلك الزخارف التي تعتبر رمزاً للفن الإسلامي الذي التصق بهوية الإمارة الباسمة وصار جزءاً من ثقافتها وبهائها.

1

إبداع حتى الختام

«إمارة الألف مئذنة، فسيفساء المساجد والمباني المطرزة بالزخارف والنقوش، بلد المتاحف والمسارح، ومنصات المهرجانات والعروض الكبيرة، وفتوحات الكشف والمغايرة والتجريب، والصروح العلمية العالمية، هنا في زوادة العقول والأرواح، الجموع تتقاطر من الأصقاع لتدلف عبر بوابات معرفتها، هنا في شارقة سلطان، على التخوم بين الأرض والسماء، يلقي الماضي إهابه المجيد على كتف الحاضر، مزيناً بالأقمار والنجوم فيتكشف الغد في مرايا العطاء، هنا واحة الخير، هنا الشارقة». بالحديث عن الإبداع الذي شكل هذا العرض الجميل، لا يمكن تجاوز روعة النص الذي صاغ جمال الشارقة بحرفية عالية وشاعرية تليق بمكانتها، كما تليق بمكانة المناسبة التي احتفى بها، فجاء أنيقاً مشدود العبارات وملهماً بجماليته التي لا تخلو من فخامة الأسلوب الكلاسيكي الذي يتناسب وروح الشارقة، تلك التي جذبت صناع الفنون والإعلام من جميع أنحاء العالم ليكتبوا عنها، ويحاولوا وصفها والتغني بجمالها وخصوصيتها، فصارت مقصداً لصناع المسرح والسينما ومختلف أنواع الفنون، تلك التي عبر عنها العرض بالأضواء المستوحاة من السينما والمسرح.

ختام مبدع توج هذا العرض الجميل بإسدال ستارة العرض على شكل لوحة فسيفسائية ضخمة ضمت آلاف الصور لشباب من أبناء الشارقة وسكانها ومحبيها اجتمعت لتشكل الرقم 50 احتفاءً بالذكرى الخمسين لتولي صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي مقاليد الحكم.

حضور كبير ومؤثر

«لقد عملنا بصدق وإخلاص واستمرار طوال سنين عديدة لكي تكون الشارقة بكافة مكوناتها علاقة عشق وحب مع الكتاب والمعرفة، وأنا أقف أمامكم أكاد أرى أجداد أجدادنا العظام من العلماء والمفكرين وهم يملؤون مكتبات العالم بالمعرفة، ويضيئون طريق الإنسانية بالحضارة والعلم، ويتركون لنا إرثاً كبيراً نفتخر به إلى يومنا هذا». إنه سلطان الأب بنفسه يملأ بحضوره الكبير والمؤثر الشاشة وهو يطل من خلال هذا الفيديو المأخوذ من إحدى الدورات السابقة لمعرض الكتاب، يذكّرنا بالجهد الكبير الذي حظي به الكتاب في الشارقة على مدى سنوات طويلة، حتى باتت عاصمة عالمية له، تعرف كمنارة لصناع الكلمة والفنون بأنواعها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"