المرجعية ضرورة إنسانية

00:16 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في الماضي، عندما كان أحدنا يكتب شيئاً خاصاً، كان يذهب به إلى المعلم، ينتابه القليل من الخجل، حيث كانت هناك قناعة بأهمية الكتابة التي تبلغ درجة القداسة، ومع الخجل كانت تنتابنا مشاعر الخوف، فنحن في انتظار رأي المعلم في ما نكتبه، وذلك الرأي سيقرر مصيرنا، فهل نستمر في الكتابة، أم نحتاج إلى المزيد من القراءة والتدريب على امتلاك ناصية اللغة والأسلوب، أم أن كتابتنا تخلو من أي موهبة، وعلينا أن نبحث عن مجال آخر ننخرط فيه؟ لم يقتصر دور المعلمين آنذاك على إبداء الرأي في الكتابة وحسب، بل كان بعضهم أصحاب رؤى مفيدة في كثير من المواهب الأخرى.

  الصورة السابقة كانت منتشرة وعلى مختلف المستويات، فهذا الطفل أو المراهق الذي ذهب لمعرفة رأي معلمه، هو نفسه من حمل كتاباته إلى إحدى الصحف أو هذا الكاتب أو ذاك الناقد، وينتظر الرأي أو التوجيه. وهناك شاب آخر التحق بأحد المراكز البحثية لصقل موهبته بالدرس والتحليل، وهناك شاب ثالث ورابع ..إلخ، فعلوا الشيء نفسه في السياسة والاقتصاد والأدب، حيث كانت فكرة المرجعية ضرورية، وتُزرع في نفوسنا منذ الصغر، ويؤمن بها المعلمون دوراً اجتماعياً وتربوياً، ربما فاقت أهميته في بعض الحالات الدور الوظيفي. صحيح كان هناك من يدخل أحد المجالات و تنقصه المؤهلات اللازمة للعمل فيه، ولكن وجود المرجعية: الفكرة والشخص في كل مكان، سمح بالفرز بين الجيد والرديء باستمرار.

  لم يكن المجتمع بمؤسساته المختلفة يحاول ترسيخ فكرة المرجعية وحسب، بل صناعتها و ترويجها وتقديمها للآخرين نماذج للأقتداء، كان كل شخص يحلم بالوصول إلى أهمية  الشخص المرجعي ومكانته، وعلى مستوى الأفكار عندما كان أحدهم يطرح فكرة جديدة للنقاش، كنا نقوّمها قياساً لفكرة مرجعية راسخة بالفعل، وحتى عندما كان بعضهم يتمردون ويصفون الفكرة المعيارية الموجودة بالكلاسيكية التي تخطاها العصر، ربما كان أحدهم يبتكر فكرة جديدة قوية تتحول مع الوقت إلى مرجعية.. وهكذا مما يسمح بالتطور.. والحال نفسها في القيم والأخلاق، كانت تصرفاتنا محكومة بضمائرنا لا خوفاً من القانون. وكانت رهينة دوماً بالوازع الذاتي، وإذا ذهبنا إلى الأدب وحتى السينما سنلاحظ تحول بعض الأبطال إلى شخصيات أثرت بقوة في الوجدان والسلوك وحتى الخيال.

  بعض المرجعيات كانت زائفة كما يعتقد رواد التواصل، هذا صحيح، ولكن معظم تلك المرجعيات كانت حقيقية وضرورية؛ فالنموذج فكرة فائقة الأهمية للسلوك الفردي والتفكير والإبداع، ليس هذا وحسب، فإننا عندما نتحول جميعنا إلى نماذج فلن يحكمنا شيء سوى القانون، وليس بالضرورة القانون المطبّق بوساطة الشرطة، ولكن قوانين مثل التسلسل الهرمي في العمل، مما يخزن كراهية ما بين الزملاء في المكان الواحد، من دون مرجعية في زمن مواقع التواصل لا قيمة أو ضمير أو علاقات مبنية على الاحترام، ومع انصياعنا جميعا للقانون وحده نتنازل عن جزء مهم من تحضرنا واحترامنا لذواتنا وربما إنسانيتنا أيضاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"