واقع مُصفى من الشعر

00:15 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

حيّرتني عبارة منسوبة للشاعر الإسباني، ابن غرناطة الأندلسية، قالها بكثير من الفخر والاعتزاز، وهو يعيد قراءة نص آخر مسرحية شعرية كتبها: «بيت برناردا ألبا»: «هذا هو الواقع المصفى، بدون قطرة واحدة من الشعر».
عبارة مخاتلة وملتبسة بالفعل. كيف لشاعر بقامة لوركا أن يفخر بأن نصه خالٍ حتى من قطرة واحدة من الشعر، ماذا يبقى من القصيدة، إذن، حين تتحول إلى واقع، حيث لا مكان للمخيلة فيها، ونحن نعلم من مطالعات القراءات النقدية للنصوص الشعرية حرص النقاد على إبراز أوجه الشعرية في النص، لا إبراز الواقع الذي هو معروف سلفاً، وحتى حين يعتني الناقد بالواقع، فهو لا يقف عنده منفصلاً، وإنما عند طريقة التجلي الشعري له في النص الذي يقرأه أو ينقده، فليس مطلوباً من الشاعر أن يعيد حكي الواقع، وإنما تمثله شعرياً.
والالتباس أو المخاتلة في عبارة لوركا، ناجمة عن صفة «الواقع المصفى». لوركا لم يقل إنه الواقع بدون قطرة واحدة من الشعر، وإنما قال بالضبط: «الواقع المصفى»، فهو إذن الواقع وقد صفي لا من الشعر وإنما من الزوائد، وحين يبلغ الشاعر درجة يتماهى فيها الشعر من الواقع، حتى لا تكاد تعثر على الفرق بينهما، وأين ينتهي الواقع ويبدأ الشعر أو العكس، فتلك دلالة نضج النص الشعري.
لقد مضى الزمن الذي كانت فيه المفردات تقسم إلى نوعين، واحدة توصف بالشاعرية، والأخرى بعدمها. ما من مفردة غير شعرية، فمهما بدت المفردة مألوفة ومتداولة في الحياة يمكن لها أن تكتسب حياة أخرى، شعرية هذه المرة، بفضل الشاعر المبدع، ويحدث العكس أيضاً، فيمكن لمفردات تبدو شديدة الرهافة والعذوبة أن تتحول إلى مفردات عادية فاقدة لشحنتها الأصلية حين ترد في نص لشاعر متعثر أو فاشل، وخير من يمكن أن نستشهد بنصوصه في هذا السياق شاعرنا محمود درويش، الذي يعدّ من أبرع من حوّل «العادي»، أو ما يبدو عادياً ويومياً جداً، من الكلام، إلى شعر.
لا يخلو النص الشعري من حصيلة تجارب الشاعر الحياتية؛ بل إن هذا ما يجب أن يكون، لكن براعة الشاعر الحقيقي تكمن في قدرته على ألا يجعل القارئ يشعر بذلك، وعلى الرغم من ذلك، لن يصح أن نعكس عبارة لوركا، فنقول عن نص من النصوص إنه «الشعر المصفى بدون قطرة واحدة من الواقع»، فهذا محال. الصحيح هو أن يتشرب النص الواقع ويذوبه في ثناياه، لينساب في القصيدة بصفته شعراً لا واقعاً، كما هو حقيقة، ولعل تجربة لوركا وهو من أكثر الشعراء انغماساً في الواقع تجسد ذلك.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"