تغيير السلوك السياسي

01:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناجي صادق شراب

بعيداً عن التعريف التقليدي للدولة وعناصرها الثلاثة: الإقليم والشعب والسلطة، فالدولة ككيان قومي تحكمها مصالح وأهداف عليا تتلخص كلها في الأمن والبقاء والنفوذ والهيمنة والسيطرة؛ لذلك فإن كل الدول تسعى إلى امتلاك القوة الشاملة وخصوصاً القوة الصلبة المتمثلة في القوة العسكرية والاقتصادية، وهذا ما يفسر لنا ميزانيات التسلح العالية حتى في الدول الفقيرة. واليوم تضاف إلى القوة الصلبة أو الخشنة، القوة الناعمة التي لا تقتصر على الدول الغنية أو الكبيرة؛ بل حتى الدول الصغرى يمكن أن تمتلك القوة الناعمة أكثر من غيرها، ما يمنحها قوة ونفوذاً وتأثيراً أكبر. 
وبما أن الدول تتعامل مع بعضها بعضاً سياسياً، فالسياسة هي الوجه الآخر للقوة التي تعني القدرة على التأثير في السلوك السياسي للفاعلين الآخرين، بما يتفق ومصالح وأهداف الدولة التي تمارس القوة، وهكذا تبدو الخارطة السياسية للعالم من منظور السلوك السياسي والتغيير والتبدل الذي يلحق بسلوك الدول.
وكما جاء في كتب جلين بالم، وكليفتون، حول نظرية السياسة الخارجية، فإن الدول في سياستها الخارجية تسعى إلى تحقيق سلعتين أو أمرين هما: الحفاظ على الوضع القائم، أو السعي إلى تغيير الوضع القائم. وهذا يعتمد على القوة التي تمتلكها الدولة وعلى سلوك الدول الأخرى، فالدول ليست حرة في ما تريد وتفرضه على الدول الأخرى. 
فالسلوك ليس ثابتاً؛ بل متغير بتغير موازين القوى وبتغير الفاعلين الدوليين، وبتغير التهديدات والمخاطر التي تواجه الدول، فالأعداء يتغيرون والأصدقاء متغيرون، وشبكة التحالفات متغيرة؛ بل الدول ذاتها قد تختفي وتتفكك إلى دويلات.. واليوم لدينا نماذج كثيرة لهذا السلوك والتغيير الذي لحق بدول المنطقة.
فالتغير في السلوك السياسي يواكب دور ومكانة الدولة وحفاظها على أمنها ومصالحها الحيوية، وإلى جانب ذلك، هناك محددات وعوامل أخرى تحكم التغير في السلوك السياسي للدول، أهمها رؤية النخبة الحاكمة، وكيف ترى التحولات السياسية للآخرين، وكيف ترى التهديدات. فالحكم من يقرر في النهاية المصلحة العليا، ولذلك وخصوصاً في دولنا، لا يمكن أن يكون الحاكم صورة لمن قبله، ففي هذه النماذج التي تلعب فيها القيادة الدور الحاسم يعتمد السلوك على من يحكم. ولا يمكن تجاهل دور المحددات الجغرافية والجيوسياسية للدولة والمنطقة التي تنتمي إليها. فهناك عامل الطابع القومي أو دور القومية، فالدول تختلف من دولة لأخرى، فهناك دولة قوة، ودولة إمبراطورية، ودولة عدوان وحرب، ودولة سلام وتسامح، وهنا تلعب منظومة القيم والتقاليد السياسية الراسخة، إضافة إلى الدين والعقيدة الأيديولوجية وراء درجة التغيير السياسي وتوجهات وصور هذا التغيير.
ولعل درجة التغيير السياسي تحكمها طبيعة النظام السياسي، ودرجة التغيير متقلبة ومتسارعة من مرحلة إلى أخرى، وهذا قد يفسر لنا حالة التخبط والفشل والتراجع أحياناً في تحقيق أهداف ومصالح الدولة، وأيضاً في النظم ذات المرجعية الدينية التي تحدد درجة التغيير السياسي، وهنا تلعب التبريرات الدينية دوراً كبيراً في تبرير لماذا اتخذ أو تبنى الحاكم هذا السلوك السياسي أو ذاك، وهنا تلعب سمات التطرف والتشدد والتعصب والجمود دوراً في التغيير السياسي، حتى لو أدى ذلك إلى الحروب والصراعات الدولية مع الآخرين. 
أما في النظم الديمقراطية فالتغيير السياسي يكن محكوماً بعوامل كثيرة. فالحاكم ليس حراً في أن يقوم بتغيير السلوك السياسي للدولة. فالتغيير السياسي محكوم بماهية المصالح العليا للدولة، وكيف يرى الحاكم تحقيقها، وهذا ما يفسر لنا أيضاً لماذا تقيم هذه الدولة علاقات وتحالفات مع دولة أخرى. فالتغيير السياسي سمة من سمات السلوك السياسي للدولة ولكل الفواعل الدولية، وهي محكومة بحالة الصراع والحروب والعنف والسلام والتحالف والتعاون، وغيرها من أشكال العلاقات الدولية. 
ويبرز في هذا السياق ما يمكن تسميته بنموذج الكوابح والجوامح التي تحدّ من سلوك الدول الأخرى. فالقوة تحد من القوة، ودول القوة ووكلاؤها يلجأون للقوة لفرض التغيير السياسي على الدول الأخرى.
وبقدر رشاد الحكم وصحة القرار السياسي، بقدر ما يمكن الحفاظ على التوازن والعقلانية في درجة التغيير السياسي. وبقدر تفهم المصالح العليا للدولة ولعبة القوة، بقدر ما يمكن عدم الانجرار إلى لعبة القوة التي تمارسها دول القوة وجماعاتها.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"