روسيا وهندسة الأمن الأوروبي

01:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين*

ليست الأزمة الروسية الأوكرانية حديثة بطبيعتها، أو مواضيعها، فثمة تاريخ من النزاعات متعددة الأوجه والخلفيات تعود لقرون مضت، ورغم أن الحقبة السوفييتية أخمدت هذه العلاقة غير الودية، إلا أنها سرعان ما ظهرت مجدداً، ووصلت مؤخراً إلى تصعيد غير مسبوق وصل إلى التلميح بعمل عسكري ضد كييف.

  والقضية بصورها الحديثة تعود إلى عام 2014 حين ضمت موسكو شبه جزيرة القرم، معتبرة إياها أرضاً روسية بعدما أهدتها لأوكرانيا في الحقبة السوفييتية كهدية عيد ميلاد لرئيسها آنذاك، ولم تكن خطوة الاسترجاع نهاية أزمة، بل بداية لفتح ملفات لا تنتهي في علاقة موسكو مع أوروبا والغرب بشكل خاص، توجت بمروحة واسعة من العقوبات التي باتت تداعياتها تشكل تحدياً روسياً مقلقاً، وعلى قاعدة هذه العقوبات تتجدد التهديدات الغربية بمزيد منها في حال أقدمت موسكو على أي عمل، أو فعل ضد كييف.

   ففي خلفية المواقف ثمة قلق روسي يعود إلى نهاية الحقبة السوفييتية، وتَشَكُل مجموعة الدول المستقلة برعاية روسية، بهدف احتواء أي تهديد أمني محتمل على قاعدة إدخال أوكرانيا في عداد حلف الأطلسي، وظلت هذه القضية تشكل مدخلاً لنزاع غير مستتر، ويهدد مجمل علاقات روسيا الأوروبية والأمريكية، لاسيما إذا ما ادخلت عليها أزمات أخرى لتحفيز وتطوير الاستثمار في قضايا أخرى، إقليمية أو دولية. وهذا ما جرى فعلياً وعملياً في الفترة السابقة، حيث بدت الأزمة مع أوكرانيا مدخلاً للمساومة والاستثمار في ملفات ونزاعات دولية أخرى.

    فعلى سبيل المثال، لا الحصر، أدى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان مثلاً، وما استتبعه من فعاليات للانسحاب من العراق لاحقاً، وتثوير وتصعيد العلاقات الأمريكية الروسية ربطاً ووصلاً في الأزمة السورية، كل ذلك أدى إلى إعادة الأزمة الأوكرانية إلى الواجهة وبطرق استفزازية لأطرافها، لاسيما وأن الطرفين  يلعبان سياسات حافة الهاوية، في وقت ظهرت صور تصعيدية بمنسوب ومستويات عالية، فهل تنشب الخرب فعلاً ، أم ما أن يجري يعتبر مدخلاً للبحث عن حل للخلفيات الأمنية للأزمة القائمة؟

  لقد جهدت موسكو في البحث عن هندسة أمنية لأوروبا بعيدة عن الحضن الأمريكي المباشر، ورغم عدم انزعاجها الكبير مبدئياً من حلف الأطلسي، إلا أنها لا تفضل إدخال دول تعتبرها، تاريخياً وحتى عقائدياً، في العقل الجمعي الروس جزءاً منها، في حلف الأطلسي ، لما تعتبره تهديداً مباشراً لأمنها القومي وسط تحديات روسية أمريكية متبادلة، ومتداخلة في العديد من القضايا الدولية. وعلى هذه الخلفية لا زالت تعتبر موسكو أن الوضع الأوكراني لا يمكن حسمه بعيداً عن العين الروسية، بخاصة في الجوانب الأمنية.

   لا شك، ثمة تصعيد متبادل ذات صور عالية التهديد، إلا أن التدقيق في الأمر يوضح صوراً مغايرة ومختلفة نسبياً، مفادها أن الأطراف المعنية بالأزمة، ومنها روسيا، تفضل البحث عن مخارج غير عسكرية لمجمل مفاصل الأزمة القائمة، للعديد من الأسباب والاعتبارات، من بينها أكلاف التصعيد العالية التي لا يمكن أن توصل لنتائج محققة يريدها أصحاب التصعيد.

   وفي الواقع ما تريده موسكو هو إيجاد وسائل ضبط واضحة لمجمل قضايا الأمن الروسي المتصلة بحلف الأطلسي، وهو مطلب تاريخي مزمن يصعب على روسيا الابتعاد أو التخلي عنه، لاسيما وأن موسكو تعرف بدقة الحجم الأوروبي وتعتبر في الوقت نفسه أن مشكلتها مع الولايات المتحدة، أولاً وأخيراً، لأنها تدرك أيضاً أن الدول الأوروبية تصرخ كثيراً لكن الكلمة الفصل هي لواشنطن، لذا تعرف موسكو الطريق الذي ستختاره في المواجهة القادمة، إن حصلت، وهي في أغلب الأحيان لن تتعدى التصعيد المحدود الذي لن يصل في الأساس إلى مستوى الاجتياح، لأن موسكو تدرك تماماً أن هذا الخيار لن يكون سهلاً، ولا يستطيع المجتمع الدولي بلعه والتعامل معه كأمر واقع، علاوة على أكلافه العالية.

   في المحصلة، هناك واقع من الصعب إيجاد حلول عملية قابلة للحياة من دون الجلوس في إطار تفاوضي منفتح يراعي المطالب والمصالح المتبادلة، لاسيما وأن عناصر الأزمة متعددة ومتشعبة ويتداخل فيها الكثير من عوامل التأثير الذاتية والموضوعية.

* رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"