عادي

أنقذوا لغة السّمَر

22:58 مساء
قراءة 4 دقائق

محمد إسماعيل زاهر

لا ينقطع الحديث عن ضرورة حماية اللغة العربية الفصحي، والارتقاء بها، وفعل كل ما من شأنه أن يعيد مكانتها لغة علوم وآداب وفنون كانت النخب الأجنبية في يوم من الأيام تتسابق لكي تتعلمها، ولكن ماذا عن المحكية أو ما يطلق عليه العامية أو الدارجة أو اللهجة الشعبية؟ تلك التي لا يتوقف أحد ليرصد معاناتها وإشكالياتها، وما وصلت إليه.

لا خوف على الفصحى، فهي في جميع الأحوال محفوظة بطرائق وأساليب شتى، مصانة ومكرمة في قراءتنا للقرآن الكريم وفي تلاوتنا له وتعبدنا بسوره وآياته، وفي كتابات الأدباء والمثقفين وفي وسائل الإعلام التي برغم تعرض الفصحى فيها لمشاكل عدة إلا أن هناك قدراً كبيراً من العناية بها. الفصحى ابنة المعاجم والقواميس والموسوعات والشعر، ووسيلة النخبة المهمومة بقضايا هذه الأمة، ولكن المحكية يتيمة تتعرض لألف عائق ومطب.

لم تعد المسألة تتعلق بعلاقة الفصحى بالعامية في الأدب، ودفاع البعض عن الكتابة بهذه أو تلك، وتوقف بعض الباحثين من الذين كانوا يجدون صلة وصل بين الفصحى والمحكية عن دراساتهم، وندر أن نجد الآن من يجمع مفردات هذه العامية أو تلك، ولم تعد العامية معبرة عن نزعات وطنية قصيرة النظر كانت تتمرد وتحاول التغريد بعيداً عن الفصحى كمعبر أصيل عن إطار مشترك يجمع العرب، كل هذه القضايا أصبحت من الماضي، يهتم بها المؤرخ أو عاشق التراث الشعبي أو قارئ كتب المعارك الأدبية.

المحكية تواجه الآن خطر التشويه، فعندما نجلس على أي مقهى أو حتى نسير في الشارع أو نتسوق في أحد المراكز التجارية، فنحن دائماً على موعد لكي نستمع إلى لغة محكية مضاف إليها الكثير من الكلمات الأجنبية، وهو الأمر الذي يتكرر في مواقع التواصل وفي كتابتنا على «الواتس آب» وغيره، الأكثر مدعاة للانتباه أن العامية المكتوبة في تلك المواقع عامية رديئة للغاية برغم المستوى التعليمي لأصحابها، وهنا سنعود إلى قضية قديمة ولكنها تعود إلى الواجهة الآن، عندما ميز البعض بين عامية جميلة وعامية قبيحة، فللعامية مفرداتها الرنانة وقواعدها في النطق والكتابة، واختلال تلك القواعد يؤشر إلى أشياء عدة، منها تراجع المستوى الثقافي والسهولة والسرعة في التعامل مع اللغة.

خشونة

الأخطر من ذلك كله، أن المحكية في بعض أقطار العالم العربي أصبحت خشنة أو جلفة وثقيلة على الأذن، وبعض مفرداتها تحمل عنفاً داخلياً يعكس تحولات متلاحقة، ولم تعد لغة حكايات الأمهات أو الجدات أو لغة السمر، بل صارت مملوءة بالسخط والغضب وبكل ما هو مزعج يجعلنا في حالة تحفز وتوتر. وفي معظم أقطارنا هناك أشبه ما يكون بعامية منفصلة خاصة بالشباب أو ببعض الفئات والشرائح الأخرى، وهناك عامية تقوم على التركيب بين المفردة الشعبية والمفردة الأجنبية بعد تعريبها، أي أننا أمام لغة من نوع غريب..عامية متدهورة نطقاً وكتابة مطعمة بمفردات أجنبية مشوهة النطق.

المحكية كانت في حوارات الأدباء منذ عقود المعبر الأساسي عن المشاعر، ففي مواقف ما، وخاصة الحوار، لا يمكن التعبير إلا بلغة الحياة، لا لغة النخبة، وكان التحدي كتابة عامية مفصّحة، والبعض قدم نماذج رائعة ربما قرأناها من دون الحاجة للسؤال عن معنى هذه المفردة أو تلك، وفشل البعض الآخر ولكنهم كانوا يراعون دائماً المتلقي من عامية أخرى، فكانوا يذيلون صفحاتهم بمعان لبعض الكلمات الواردة في المتن، ولكن الجميع كتبوا عامية راقية، ولكن فصحى هؤلاء أنفسهم كانت خلابة وسلسة ولم يكن القارئ نفسه يشعر أنه يقرأ فصحى، بل يقرأ لغة تتسلل إلى كيانه برفق ومحبة، لغة ليست مقعرة أو متعالمة أو تمتلئ باستطرادات وجمل طويلة، ربما لأن الكاتب لا يعرف ماذا يريد أن يقول على وجه الدقة، هنا نحن سنجد أنفسنا في مدار آخر تماماً يتعلق بمنتج النص ومتلقيه، وسنعود مرة أخرى إلى فضاء الفصحى.

يرتبط تراجع المحكية وتدهورها، بتراجع واضح للفصحى، وبتراجع أوضح لرؤية النخب الصانعة للفنون والآداب للثقافة نفسها، فنحن حتى الآن في العالم العربي لا نعرف كيف نتعامل مع الثقافة في علاقتها بالجمهور، هل نحاول الارتقاء بذائقة هذا الجمهور أم نقدم له ما يرضيه تحقيقاً للربح أولاً ولكسر عزلة الثقافة نفسها ثانياً، ويبدو أن التطور التكنولوجي والتحولات الاجتماعية الناتجة عن العولمة ولواحقها وما شهدته بعض الأقطار العربية من أحداث مأساوية خلال العقدين الماضيين..كل هذا أدى إلى ترجيح الخيار الثاني.

ومع مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد المحكية قضية لغوية أو أدبية رهينة باجتهاد هذا أو ذاك، ولكن أصابها التشظي وأصبحت مشاعاً للجميع، وتوقف مسار اللغة الذي كان يتسم بالتدرج من أديب يكتب بالعامية أو شاعر غنائي أو..أو.. وصولاً إلى الشارع حيث يتأثر البشر ويتحدثون محكية راقية، ما يحدث في الراهن يؤشر إلى العكس تماماً، فالمحكية تصنع الآن في الشارع لتصل إلى النخب وتدفعهم للتعبير عن ذلك المنتج في الأدب والغناء، بل ويصل ذلك التأثير السلبي إلى الفصحى نفسها.

تغيرات الشارع

العامية مرآة المجتمع، ومشاكلها ليست منوطة باللغويين أو المهتمين بكل ما هو شعبي وحسب، بل تتعلق بالمشتغلين بعلم الاجتماع وعلم النفس، فالشارع العربي يشهد تغيرات، تؤثر في رؤيته للعالم ومن ثم التعبير عما يشعر به تجاه العالم.

عندما نتحدث عن الفصحى فنحن ندور في إطار النخبة التي تستطيع في أي وقت وقف التراجع، إن امتلكت الإرادة والرؤية، أما عندما نتكلم عن تراجع المحكية فإننا أسرى تقلبات مفصلية تشهدها بلادنا، ومن هنا أهمية محاولة إنقاذ لغة السمر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"