تشويه إرث عظيم

23:06 مساء
قراءة دقيقتين

د. باسمة يونس

يرفض أغلبية الأدباء والمثقفين إدخال اللهجة المحكية في أعمالهم إلا بنسب ضئيلة جداً وعند الضرورة التي يصعب تجاهلها، فاللهجة المحكية تحدٍّ من نوع صعب يواجه اللغة العربية الفصيحة ويعترض المحاولات الدؤوبة لحمايتها وتمييزها عن بقية اللغات، بصفتها العنصر الأساسي في هويتنا.

ورغم أن اللهجة المحكية لا تستطيع أن تكون لغة الأدب والمعرفة، لكنها تلبي حاجة واسعة لفئات وشرائح من الناس للتواصل مع الآخرين، كما أنها جزء في بعض مجالات الفن الذي يتعاطى مع مشاعر الناس ويبرع في الاتصال بها.

فمع أن اللهجات العامية لا ترقى إلى مستوى الفصحى ولا تحتمل زخمها الفكري وحضورها الثقافي، لكنها أصبحت تستخدم في مهمات توجيه رسائل معينة للمجتمع، بغرض تسهيل الكثير من المفاهيم التي يحتاجون إلى معرفتها في حياتهم اليومية ولفائدتها في كثير من المواقف التي لا تحتاج إلى الرسميات، ودورها في إبراز بعض عناصر التراث، من خلال دراسة الأقوام واللهجات، التي تشكل جزءاً منه.

ورغم أن هذه اللهجات المحكية في معظم مفرداتها جزء من أصل وجذر عربي فإنها باتت غريبة بدورها، بسبب إدخال مفردات أجنبية عاثت فيها على مر العصور واختلاف التحديات التي تضامنت في محاولة هز استقرار اللغة العربية باللهجات المحكية وتوسيع الهوة بينهما. فليس الخطر في تعميم اللهجة المحكية، بل في استسهال إدخال ألفاظ أجنبية فيها، وتعمد حشو حواراتنا بمفردات ومصطلحات إفرنجية، فكأننا نسعى إلى تشويهها من دون قصد، جهلاً منا بالارتباط الوثيق للغتنا بتاريخنا وحضارتنا، وما تحمله من إرث عظيم لأمم ساهمت في نشر الكثير من العلوم، وسعت طوال قرون للتطور والنمو من خلالها.

ومن المؤسف أن تقع فئة كبيرة من الشباب في فخ استخدام المفردات الأجنبية في حواراتهم من دون ضرورة أو حاجة لها في سياق الحوار أو الحديث، وما يحدثه هذا الأمر من عيوب كثيرة في حياتهم تبدأ من تفويتهم معرفة وإتقان الكثير من المصطلحات الأساسية في لغتهم، ما يصيبهم بضعف لغوي شديد، ويزيد عسر إتقانهم العربية، وما يجره عليهم ذلك من ضحالة معرفية بلغتهم الأصلية.

ويجهل هؤلاء أن المثقف الأصيل لا يعجزه الحوار عن العثور على مفردات في لغته للتعبير بها أو التحاور باستخدامها، ولن تسد المفردات الأجنبية ثغرة في النقاش أو تجعله مقنعاً في حديثه، بل ستزيد من عمق حفرة سقوطه في فخ انكشاف ضعف لغته الأصيلة وتشوه هويته الأساسية.

أما الخطر الآخر فهو يعود إلى عدم وعي الشباب بالضرر الذي يحدثه تقليل استخدامهم اللغة العربية، بدءاً من تعميق الفجوة بين الأجيال باختلاف لغة التفاهم بينهم وبين من سبقوهم، وانتهاء بمساهمتهم في تراجعها عالمياً بين اللغات الأخرى، والتجني على جذورهم الأصيلة وارتباطهم التاريخي، والجهل بأن مواكبة التطور لا علاقة لها بالتنازل عن الهوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتبة ومستشارة في تنمية المعرفة. حاصلة على الدكتوراه في القيادة في مجال إدارة وتنمية المواهب وعضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ورابطة أديبات الإمارات. أصدرت عدة مجموعات في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرح والبرامج الثقافية والأفلام القصيرة وحصلت على عدة جوائز ثقافية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"